الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا" ، واذكروا إذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا .

قال أبو جعفر : يعني بقوله : "آمنا" : آمنا من الجبابرة وغيرهم ، أن يسلطوا [ ص: 45 ] عليه ، ومن عقوبة الله أن تناله ، كما تنال سائر البلدان ، من خسف ، وائتفاك ، وغرق ، وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد غيره ، كما :

2026 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن الحرم حرم بحياله إلى العرش . وذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط . قال الله له : أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي . فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين ، حتى إذا كان زمان الطوفان - حين أغرق الله قوم نوح - رفعه وطهره ، ولم تصبه عقوبة أهل الأرض . فتتبع منه إبراهيم أثرا ، فبناه على أساس قديم كان قبله .

فإن قال لنا قائل : أوما كان الحرم آمنا إلا بعد أن سأل إبراهيم ربه له الأمان ؟

قيل له : لقد اختلف في ذلك . فقال بعضهم : لم يزل الحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه ، منذ خلقت السماوات والأرض . واعتلوا في ذلك بما : -

2027 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري ، قال سمعت أبا شريح الخزاعي يقول : لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلا من هذيل ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال : "يا أيها الناس ، إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأض ، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، أو يعضد بها شجرا . ألا وإنها لا تحل لأحد بعدي ، [ ص: 46 ] ولم تحل لي إلا هذه الساعة ، غضبا على أهلها . ألا فهي قد رجعت على حالها بالأمس . ألا ليبلغ الشاهد الغائب ، فمن قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل بها! فقولوا : إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لك " .

2028 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان - وحدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير - جميعا ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لمكة حين افتتحها : "هذه حرم حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، وخلق الشمس والقمر ، ووضع هذين الأخشبين ، لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، أحلت لي ساعة من نهار . [ ص: 47 ]

قالوا : فمكة منذ خلقت حرم آمن من عقوبة الله وعقوبة الجبابرة . قالوا : وقد أخبرت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها . قالوا : ولم يسأل إبراهيم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الجبابرة ، ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الجدوب والقحوط ، وأن يرزق ساكنه من الثمرات ، كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله : " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قالوا : وإنما سأل ربه ذلك لأنه أسكن فيه ذريته ، وهو غير ذي زرع ولا ضرع ، فاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا ، فسأله أن يؤمنهم مما حذر عليهم منه .

قالوا : وكيف يجوز أن يكون إبراهيم سأل ربه تحريم الحرم ، وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبابرة خلقه ، وهو القائل - حين حله ، ونزله بأهله وولده : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) [ سورة إبراهيم : 37 ] ؟ قالوا : فلو كان إبراهيم هو الذي حرم الحرم أو سأل ربه [ ص: 48 ] تحريمه لما قال : "عند بيتك المحرم" عند نزوله به ، ولكنه حرم قبله ، وحرم بعده .

وقال آخرون : كان الحرم حلالا قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد غيره ، وإنما صار حراما بتحريم إبراهيم إياه ، كما كانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالا قبل تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها . قالوا : والدليل على ما قلنا من ذلك ، ما : -

2029 - حدثنا به ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه ، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها ، لا يصاد صيدها ، ولا تقطع عضاهها .

2030 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا [ حدثنا ابن إدريس - وأخبرنا أبو كريب قال ] ، حدثنا عبد الرحيم الرازي ، [ قالا جميعا ] : سمعنا أشعث ، عن نافع ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن إبراهيم كان عبد الله وخليله ، وإني عبد الله ورسوله ، وإن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها ، عضاهها وصيدها ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يقطع منها شجر إلا لعلف بعير . [ ص: 49 ]

2031 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا بكر بن مضر ، عن ابن الهاد ، عن أبي بكر بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن رافع بن خديج ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن إبراهيم حرم مكة ، وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها . [ ص: 50 ]

وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب .

قالوا : "وقد أخبر الله تعالى ذكره في كتابه أن إبراهيم قال : "رب اجعل هذا بلدا آمنا" ، ولم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الأشياء دون بعض ، فليس لأحد أن يدعي أن الذي سأله من ذلك ، الأمان له من بعض الأشياء دون بعض ، إلا بحجة يجب التسليم لها . قالوا : وأما خبر أبي شريح وابن عباس ، فخبران لا تثبت بهما حجة ، لما في أسانيدهما من الأسباب التي لا يجب التسليم فيها من أجلها .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرما حين خلقها وأنشأها ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أنه حرمها يوم خلق السماوات والأرض" ، بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله ، ولكن بمنعه من أرادها بسوء ، وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات ، وعن ساكنيها ، ما أحل بغيرها وغير ساكنيها من النقمات . فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله ، وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل . فسأل حينئذ إبراهيم ربه إيجاب فرض تحريمها على عباده على لسانه ، ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه ، يستنون به فيها ، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلا وأخبره أنه جاعله ، للناس إماما يقتدى به ، فأجابه ربه إلى ما سأله ، وألزم عباده حينئذ فرض تحريمه على لسانه ،

فصارت مكة - بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها ، بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها على عباده ، ومحرمة بدفع الله عنها ، بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله - فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام ، وواجب على عباده الامتناع من استحلالها ، واستحلال صيدها وعضاهها لها بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليه بذلك إليهم . [ ص: 51 ]

فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله حرم مكة " . لأن فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به - دون التحريم الذي لم يزل متعبدا لها به على وجه الكلاءة والحفظ لها قبل ذلك - كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه ، [ وهو الذي ] لزم العباد فرضه دون غيره .

فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين - أعني خبر أبي شريح وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "وإن الله حرم مكة يوم خلق الشمس والقمر" - وخبر جابر وأبى هريرة ورافع بن خديج وغيرهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "اللهم إن إبراهيم حرم مكة " ؛ وأن ليس أحدهما دافعا صحة معنى الآخر ، كما ظنه بعض الجهال .

وغير جائز في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بعضها دافعا بعضا ، إذا ثبت صحتها . وقد جاء الخبران اللذان رويا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مجيئا ظاهرا مستفيضا يقطع عذر من بلغه .

وأما قول إبراهيم عليه السلام ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) [ سورة إبراهيم : 37 ] فإنه ، إن يكن قاله قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه ، فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرمه بحياطته إياه وكلاءته ، من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد لهم بذلك - وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على خلقه على وجه التعبد فلا مسألة لأحد علينا في ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية