الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 53 ] القول في تأويل قوله تعالى ( قال ومن كفر فأمتعه قليلا )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في قائل هذا القول ، وفي وجه قراءته . فقال بعضهم : قائل هذا القول ربنا تعالى ذكره ، وتأويله على قولهم : قال : ومن كفر فأمتعه قليلا برزقي من الثمرات في الدنيا ، إلى أن يأتيه أجله . وقرأ قائل هذه المقالة ذلك : "فأمتعه قليلا" ، بتشديد "التاء" ورفع "العين" .

ذكر من قال ذلك :

2033 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع ، قال : حدثني أبو العالية ، عن أبي بن كعب في قوله : "ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار" ، قال هو قول الرب تعالى ذكره .

2034 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال ابن إسحاق : لما قال إبراهيم : "رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر" ، وعدل الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية ، انقطاعا إلى الله ، ومحبة وفراقا لمن خالف أمره ، وإن كانوا من ذريته ، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا ينال عهده ، بخبره عن ذلك حين أخبره فقال الله : ومن كفر - فإني أرزق البر والفاجر - فأمتعه قليلا .

وقال آخرون : بل قال ذلك إبراهيم خليل الرحمن ، على وجه المسألة منه ربه أن [ ص: 54 ] يرزق الكافر أيضا من الثمرات بالبلد الحرام ، مثل الذي يرزق به المؤمن ويمتعه بذلك قليلا "ثم اضطره إلى عذاب النار" - بتخفيف "التاء" وجزم "العين" ، وفتح "الراء" من اضطره ، وفصل "ثم اضطره" بغير قطع ألفها - على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة .

ذكر من قال ذلك :

2035 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع قال : قال أبو العالية : كان ابن عباس يقول : ذلك قول إبراهيم ، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا .

2036 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ليث ، عن مجاهد : "ومن كفر فأمتعه قليلا" ، يقول : ومن كفر فأرزقه أيضا ، ثم أضطره إلى عذاب النار .

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا والتأويل ، ما قاله أبي بن كعب وقراءته ، لقيام الحجة بالنقل المستفيض دراية بتصويب ذلك ، وشذوذ ما خالفه من القراءة . وغير جائز الاعتراض بمن كان جائزا عليه في نقله الخطأ والسهو ، على من كان ذلك غير جائز عليه في نقله . وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : قال الله : يا إبراهيم ، قد أجبت دعوتك ، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات وكفارهم ، متاعا لهم إلى بلوغ آجالهم ، ثم أضطر كفارهم بعد ذلك إلى النار .

وأما قوله : "فأمتعه قليلا" يعني : فأجعل ما أرزقه من ذلك في حياته [ ص: 55 ] متاعا يتمتع به إلى وقت مماته .

وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن الله تعالى ذكره إنما قال ذلك لإبراهيم ، جوابا لمسألته ما سأل من رزق الثمرات لمؤمني أهل مكة . فكان معلوما بذلك أن الجواب إنما هو فيما سأله إبراهيم لا في غيره . وبالذي قلنا في ذلك قال مجاهد ، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه .

وقال بعضهم : تأويله : فأمتعه بالبقاء في الدنيا .

وقال غيره : فأمتعه قليلا في كفره ما أقام بمكة ، حتى أبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيقتله ، إن أقام على كفره ، أو يجليه عنها . وذلك وإن كان وجها يحتمله الكلام ، فإن دليل ظاهر الكلام على خلافه ، لما وصفنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية