الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ( 34 ) قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب ( 35 ) )

يقول - تعالى ذكره - : ولقد ابتلينا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا شيطانا متمثلا بإنسان ، ذكروا أن اسمه صخر . وقيل : إن اسمه آصف . وقيل : إن اسمه آصر . وقيل : إن اسمه حبقيق .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( وألقينا على كرسيه جسدا ) قال : هو صخر الجني تمثل على كرسيه جسدا .

حدثني محمد بن سعد قال : ثنى أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ) [ ص: 197 ] قال : الجسد : الشيطان الذي كان دفع إليه سليمان خاتمه ، فقذفه في البحر ، وكان ملك سليمان في خاتمه ، وكان اسم الجني صخرا .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا أبو داود قال : ثنا مبارك ، عن الحسن ( وألقينا على كرسيه جسدا ) قال : شيطانا .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا أبو داود قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ( وألقينا على كرسيه جسدا ) قال : شيطانا يقال له آصر .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله ( على كرسيه جسدا ) قال : شيطانا يقال له آصف ، فقال له سليمان : كيف تفتنون الناس ؟ قال : أرني خاتمك أخبرك . فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر ، فساح سليمان وذهب ملكه ، وقعد آصف على كرسيه ، ومنعه الله نساء سليمان ، فلم يقربهن ، وأنكرنه قال : فكان سليمان يستطعم فيقول : أتعرفوني أطعموني أنا سليمان ، فيكذبونه ، حتى أعطته امرأة يوما حوتا يطيب بطنه ، فوجد خاتمه في بطنه ، فرجع إليه ملكه ، وفر آصف فدخل البحر فارا .

حدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بنحوه ، غير أنه قال في حديثه : فيقول : لو تعرفوني أطعمتموني .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ) قال : حدثنا قتادة أن سليمان أمر ببناء بيت المقدس ، فقيل له : ابنه ، ولا يسمع فيه صوت حديد قال : فطلب ذلك فلم يقدر عليه ، فقيل له : إن شيطانا في البحر يقال له صخر شبه المارد قال : فطلبه ، وكانت عين في البحر يردها في كل سبعة أيام مرة ، فنزح ماؤها [ ص: 198 ] وجعل فيها خمر ، فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر ، فقال : إنك لشراب طيب ، إلا أنك تصبين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلا قال : ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا ، ثم أتاها فقال : إنك لشراب طيب ، إلا أنك تصبين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلا قال : ثم شربها حتى غلبت على عقله قال : فأري الخاتم أو ختم به بين كتفيه ، فذل قال : فكان ملكه في خاتمه ، فأتى به سليمان ، فقال : إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت . وقيل لنا : لا يسمعن فيه صوت حديد قال : فأتى ببيض الهدهد ، فجعل عليه زجاجة ، فجاء الهدهد ، فدار حولها ، فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه ، فذهب فجاء بالماس ، فوضعه عليه ، فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه ، فأخذ الماس ، فجعلوا يقطعون به الحجارة ، فكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو الحمام لم يدخلها بخاتمه ، فانطلق يوما إلى الحمام ، وذلك الشيطان صخر معه ، وذلك عند مقارفة ذنب قارف فيه بعض نسائه قال : فدخل الحمام ، وأعطى الشيطان خاتمه ، فألقاه في البحر ، فالتقمته سمكة ، ونزع ملك سليمان منه ، وألقي على الشيطان شبه سليمان قال : فجاء فقعد على كرسيه وسريره ، وسلط على ملك سليمان كله غير نسائه قال : فجعل يقضي بينهم ، وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا : لقد فتن نبي الله ، وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب في القوة ، فقال : والله لأجربنه قال : فقال له : يا نبي الله ، وهو لا يرى إلا أنه نبي الله ، أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة ، فيدع الغسل عمدا حتى تطلع الشمس ، أترى عليه بأسا ؟ قال : لا قال : فبينا هو كذلك أربعين ليلة حتى وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة ، فأقبل فجعل لا يستقبله جني ولا طير إلا سجد له ، حتى انتهى إليهم ( وألقينا على كرسيه جسدا ) قال : هو الشيطان صخر .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي في قوله ( ولقد فتنا سليمان ) قال : لقد ابتلينا ( وألقينا على كرسيه جسدا ) قال : الشيطان حين جلس على كرسيه أربعين يوما قال : كان لسليمان مائة امرأة ، وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة ، وهي آثر نسائه عنده ، وآمنهن [ ص: 199 ] عنده ، وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه ، ولم يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها ، فجاءته يوما من الأيام ، فقالت : إن أخي بينه وبين فلان خصومة ، وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك ، فقال لها : نعم ، ولم يفعل ، فابتلي وأعطاها خاتمه ، ودخل المخرج ، فخرج الشيطان في صورته ، فقال لها : هاتي الخاتم ، فأعطته ، فجاء حتى جلس على مجلس سليمان ، وخرج سليمان بعد ، فسألها أن تعطيه خاتمه ، فقالت : ألم تأخذه قبل ؟ قال : لا وخرج مكانه تائها قال : ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما . قال : فأنكر الناس أحكامه ، فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم ، فجاءوا حتى دخلوا على نسائه ، فقالوا : إنا قد أنكرنا هذا ، فإن كان سليمان فقد ذهب عقله ، وأنكرنا أحكامه . قال : فبكى النساء عند ذلك قال : فأقبلوا يمشون حتى أتوه ، فأحدقوا به ، ثم نشروا التوراة ، فقرءوا قال : فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه ، ثم طار حتى ذهب إلى البحر ، فوقع الخاتم منه في البحر ، فابتلعه حوت من حيتان البحر . قال : وأقبل سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع ، وقد اشتد جوعه ، فاستطعمهم من صيدهم قال : إني أنا سليمان ، فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه ، فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر ، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه ، فقالوا : بئس ما صنعت حيث ضربته قال : إنه زعم أنه سليمان قال : فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم ، ولم يشغله ما كان به من الضرر ، حتى قام إلى شط البحر ، فشق بطونهما ، فجعل يغسل . . . ، فوجد خاتمه في بطن إحداهما ، فأخذه فلبسه ، فرد الله عليه بهاءه وملكه ، وجاءت الطير حتى حامت عليه ، فعرف القوم أنه سليمان ، فقام القوم يعتذرون مما صنعوا ، فقال : ما أحمدكم على عذركم ، ولا ألومكم على ما كان منكم ، كان هذا الأمر لا بد منه قال : فجاء حتى أتى ملكه ، فأرسل إلى الشيطان فجيء به ، وسخر له الريح والشياطين يومئذ ، ولم تكن سخرت له قبل ذلك ، وهو قوله ( وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب ) قال : وبعث إلى الشيطان ، فأتي به ، فأمر به فجعل في صندوق من [ ص: 200 ] حديد ، ثم أطبق عليه فأقفل عليه بقفل ، وختم عليه بخاتمه ، ثم أمر به ، فألقي في البحر ، فهو فيه حتى تقوم الساعة ، وكان اسمه حبقيق .

وقوله ( ثم أناب ) سليمان ، فرجع إلى ملكه من بعد ما زال عنه ملكه فذهب .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثت عن المحاربي ، عن عبد الرحمن عن جويبر ، عن الضحاك في قوله ( ثم أناب ) قال : دخل سليمان على امرأة تبيع السمك ، فاشترى منها سمكة ، فشق بطنها ، فوجد خاتمه ، فجعل لا يمر على شجر ولا حجر ولا شيء إلا سجد له ، حتى أتى ملكه وأهله ، فذلك قوله ، ( ثم أناب ) يقول : ثم رجع .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ثم أناب ) وأقبل ، يعني سليمان .

قوله ( قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) يقول - تعالى ذكره - : قال سليمان راغبا إلى ربه : رب استر علي ذنبي الذي أذنبت بيني وبينك ، فلا تعاقبني به ( وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) لا يسلبنيه أحد كما سلبنيه قبل هذه الشيطان .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) يقول : ملكا لا أسلبه كما سلبته . وكان بعض أهل العربية يوجه معنى قوله ( لا ينبغي لأحد من بعدي ) إلى : أن لا يكون لأحد من بعدي ، كما قال ابن أحمر :


ما أم غفر على دعجاء ذي علق ينفي القراميد عنها الأعصم الوقل [ ص: 201 ]     في رأس حلقاء من عنقاء مشرفة
لا ينبغي دونها سهل ولا جبل



بمعنى : لا يكون فوقها سهل ولا جبل أحصن منها .

وقوله ( إنك أنت الوهاب ) يقول : إنك وهاب ما تشاء لمن تشاء بيدك خزائن كل شيء تفتح من ذلك ما أردت لمن أردت .

التالي السابق


الخدمات العلمية