الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( هذا وإن للطاغين لشر مآب ( 55 ) جهنم يصلونها فبئس المهاد ( 56 ) هذا فليذوقوه حميم وغساق ( 57 ) وآخر من شكله أزواج ( 58 ) هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالو النار ( 59 ) قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار ( 60 ) )

يعني - تعالى ذكره - بقوله ( هذا ) : الذي وصفت لهؤلاء المتقين : ثم استأنف جل وعز الخبر عن الكافرين به الذين طغوا عليه وبغوا ، فقال : ( وإن للطاغين ) وهم الذين تمردوا على ربهم ، فعصوا أمره مع إحسانه إليهم ( لشر مآب ) يقول : لشر مرجع ومصير يصيرون إليه في الآخرة بعد خروجهم من الدنيا .

كما حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( وإن للطاغين لشر مآب ) قال : لشر منقلب . ثم بين - تعالى ذكره - : ما ذلك الذي إليه ينقلبون ويصيرون في الآخرة ، فقال : ( جهنم يصلونها ) [ ص: 225 ] فترجم عن جهنم بقوله ( لشر مآب ) ومعنى الكلام : إن للكافرين لشر مصير يصيرون إليه يوم القيامة ، لأن مصيرهم إلى جهنم ، وإليها منقلبهم بعد وفاتهم ( فبئس المهاد ) يقول - تعالى ذكره - : فبئس الفراش الذي افترشوه لأنفسهم جهنم .

وقوله ( هذا فليذوقوه حميم وغساق ) يقول - تعالى ذكره - : هذا حميم ، وهو الذي قد أغلي حتى انتهى حره ، وغساق فليذوقوه ، فالحميم مرفوع بهذا ، وقوله ( فليذوقوه ) معناه التأخير ، لأن معنى الكلام ما ذكرت ، وهو : هذا حميم وغساق فليذوقوه . وقد يتجه إلى أن يكون هذا مكتفيا بقوله فليذوقوه ثم يبتدأ فيقال : حميم وغساق ، بمعنى : منه حميم ومنه غساق .

كما قال الشاعر :


حتى إذا أضاء الصبح في غلس وغودر البقل ملوي ومحصود



وإذا وجه إلى هذا المعنى جاز في هذا النصب والرفع . النصب على أن يضمر قبلها لها ناصب ، كما قال الشاعر :


زيادتنا نعمان لا تحرمننا     تق الله فينا والكتاب الذي تتلو



والرفع بالهاء في قوله ( فليذوقوه ) كما يقال : الليل فبادروه ، والليل فبادروه .

[ ص: 226 ] حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( هذا فليذوقوه حميم وغساق ) قال : الحميم الذي قد انتهى حره .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : الحميم دموع أعينهم ، تجمع في حياض النار فيسقونه .

وقوله ( وغساق ) اختلفت القراء في قراءته ، فقرأته عامة قراء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين والشام بالتخفيف : " وغساق " وقالوا : هو اسم موضوع . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة : ( وغساق ) مشددة ، ووجهوه إلى أنه صفة من قولهم : غسق يغسق غسوقا : إذا سال ، وقالوا : إنما معناه : أنهم يسقون الحميم ، وما يسيل من صديدهم .

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وإن كان التشديد في السين أتم عندنا في ذلك ، لأن المعروف ذلك في الكلام ، وإن كان الآخر غير مدفوعة صحته .

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : هو ما يسيل من جلودهم من الصديد والدم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( هذا فليذوقوه حميم وغساق ) قال : كنا نحدث أن الغساق : ما يسيل من بين جلده ولحمه .

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي قال : الغساق : الذي يسيل من أعينهم من دموعهم ، يسقونه مع الحميم .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : الغساق : ما يسيل من سرمهم ، وما يسقط من جلودهم .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد [ ص: 227 ] ( الغساق ) : الصديد الذي يجمع من جلودهم مما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها فيسقونه .

حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي قال : ثني أبي قال : ثنا ابن لهيعة قال : ثني أبو قبيل أنه سمع أبا هبيرة الزيادي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : أي شيء الغساق ؟ قالوا : الله أعلم ، فقال عبد الله بن عمرو : هو القيح الغليظ ، لو أن قطرة منه تهراق في المغرب لأنتنت أهل المشرق ، ولو تهراق في المشرق لأنتنت أهل المغرب .

قال يحيى بن عثمان قال أبي : ثنا ابن لهيعة مرة أخرى ، فقال : ثنا أبو قبيل عن عبد الله بن هبيرة ولم يذكر لنا أبا هبيرة .

حدثنا ابن عوف قال : ثنا أبو المغيرة قال : ثنا صفوان قال : ثنا أبو يحيى عطية الكلاعي أن كعبا كان يقول : هل تدرون ما غساق ؟ قالوا : لا والله قال : عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية أو عقرب أو غيرها ، فيستنقع فيؤتى بالآدمي ، فيغمس فيها غمسة واحدة ، فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام . حتى يتعلق جلده في كعبيه وعقبيه ، وينجر لحمه كجر الرجل ثوبه .

وقال آخرون : هو البارد الذي لا يستطاع من برده .

ذكر من قال ذلك :

حدثت عن يحيى بن أبي زائدة عن ابن جريج عن مجاهد ( وغساق ) قال : بارد لا يستطاع ، أو قال : برد لا يستطاع .

حدثني علي بن عبد الأعلى قال : ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ( هذا فليذوقوه حميم وغساق ) قال : يقال : الغساق : أبرد البرد ، ويقول آخرون : لا بل هو أنتن النتن .

وقال آخرون : بل هو المنتن .

ذكر من قال ذلك :

حدثت عن المسيب عن إبراهيم النكري عن صالح بن حيان عن [ ص: 228 ] أبيه ، عن عبد الله بن بريدة قال : الغساق : المنتن ، وهو بالطخارية .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : ثني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا " .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : هو ما يسيل من صديدهم ، لأن ذلك هو الأغلب من معنى الغسوق ، وإن كان للآخر وجه صحيح .

وقوله ( وآخر من شكله أزواج ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والكوفة ( وآخر من شكله أزواج ) على التوحيد ، بمعنى : هذا حميم وغساق فليذوقوه ، وعذاب آخر من نحو الحميم ألوان وأنواع ، كما يقال : لك عذاب من فلان : ضروب وأنواع ، وقد يحتمل أن يكون مرادا بالأزواج الخبر عن الحميم والغساق ، وآخر من شكله ، وذلك ثلاثة ، فقيل أزواج ، يراد أن ينعت بالأزواج تلك الأشياء الثلاثة . وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين : " وأخر " على الجماع ، وكأن من قرأ ذلك كذلك كان عنده لا يصلح أن يكون الأزواج وهي جمع نعتا لواحد ، فلذلك جمع أخر ؛ لتكون الأزواج نعتا لها ، والعرب لا تمنع أن ينعت الاسم إذا كان فعلا بالكثير والقليل والاثنين كما بينا ، فتقول : عذاب فلان أنواع ، ونوعان مختلفان .

وأعجب القراءتين إلي أن أقرأ بها : ( وآخر ) على التوحيد ، وإن كانت الأخرى صحيحة لاستفاضة القراءة بها في قراء الأمصار ، وإنما اخترنا التوحيد لأنه أصح مخرجا في العربية ، وأنه في التفسير بمعنى التوحيد . وقيل إنه الزمهرير .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن [ ص: 229 ] السدي عن مرة عن عبد الله ( وآخر من شكله أزواج ) قال الزمهرير .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا يحيى قال : ثنا سفيان ، عن السدي عن مرة عن عبد الله بمثله .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا معاوية ، عن سفيان ، عن السدي عمن أخبره عن عبد الله بمثله ، إلا أنه قال : عذاب الزمهرير .

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود قال : هو الزمهرير .

حدثت عن يحيى بن أبي زائدة عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال : ذكر الله العذاب ، فذكر السلاسل والأغلال ، وما يكون في الدنيا ، ثم قال : ( وآخر من شكله أزواج ) قال : وآخر لم ير في الدنيا .

وأما قوله ( من شكله ) فإن معناه : من ضربه ، ونحوه . يقول الرجل للرجل : ما أنت من شكلي ، بمعنى : ما أنت من ضربي بفتح الشين . وأما الشكل فإنه من المرأة ما علقت مما تتحسن به ، وهو الدل أيضا منها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( وآخر من شكله أزواج ) يقول : من نحوه .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وآخر من شكله أزواج ) من نحوه .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( وآخر من شكله أزواج ) قال : من كل شكل ذلك العذاب الذي سمى الله - أزواج لم يسمها الله قال : والشكل الشبيه .

وقوله ( أزواج ) يعني : ألوانا وأنواعا .

[ ص: 230 ] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن في قوله ( وآخر من شكله أزواج ) قال : ألوان من العذاب .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( أزواج ) زوج زوج من العذاب .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( أزواج ) قال : أزواج من العذاب في النار .

وقوله ( هذا فوج مقتحم معكم ) يعني - تعالى ذكره - بقوله ( هذا فوج ) هذا فرقة وجماعة مقتحمة معكم أيها الطاغون - النار ، وذلك دخول أمة من الأمم الكافرة بعد أمة ، ( لا مرحبا بهم إنهم صالو النار ) وهذا خبر من الله عن قيل الطاغين الذين كانوا قد دخلوا النار قبل هذا الفوج المقتحم للفوج المقتحم فيها عليهم ، لا مرحبا بهم ، ولكن الكلام اتصل فصار كأنه قول واحد ، كما قيل : ( يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون ) فاتصل قول فرعون بقول ملئه ، وهذا كما قال - تعالى ذكره - مخبرا عن أهل النار : ( كلما دخلت أمة لعنت أختها )

ويعني بقولهم : ( لا مرحبا بهم ) لا اتسعت بهم مداخلهم ، كما قال أبو الأسود :


لا مرحبا واديك غير مضيق



وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل .

[ ص: 231 ] ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( هذا فوج مقتحم معكم ) في النار ( لا مرحبا بهم إنهم صالو النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم ) . . حتى بلغ : ( فبئس القرار ) قال : هؤلاء التباع يقولون للرءوس .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم ) قال : الفوج : القوم الذين يدخلون فوجا بعد فوج ، وقرأ : ( كلما دخلت أمة لعنت أختها ) التي كانت قبلها . وقوله ( إنهم صالو النار ) يقول : إنهم واردو النار وداخلوها . ( قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم ) يقول : قال الفوج الواردون جهنم على الطاغين الذين وصف - جل ثناؤه - صفتهم لهم : بل أنتم أيها القوم لا مرحبا بكم : أي لا اتسعت بكم أماكنكم ، ( أنتم قدمتموه لنا ) يعنون : أنتم قدمتم لنا سكنى هذا المكان ، وصلي النار بإضلالكم إيانا ، ودعائكم لنا إلى الكفر بالله ، وتكذيب رسله ، حتى ضللنا باتباعكم ، فاستوجبنا سكنى جهنم اليوم ، فذلك تقديمهم لهم ما قدموا في الدنيا من عذاب الله لهم في الآخرة

( فبئس القرار ) يقول : فبئس المكان يستقر فيه جهنم .

التالي السابق


الخدمات العلمية