الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2514 2657 - حدثنا زياد بن يحيى، حدثنا حاتم بن وردان حدثنا أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أقبية، فقال لي أبي مخرمة: انطلق بنا إليه عسى أن يعطينا منها شيئا. فقام أبي على الباب فتكلم، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه قباء، وهو يريه محاسنه وهو يقول: " خبأت هذا لك، خبأت هذا لك". [انظر: 2599 - مسلم: 1058 - فتح: 5 \ 264]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق ثلاثة أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: حديث هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في المسجد، فقال: "رحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية، أسقطتهن من سورة كذا وكذا". وزاد عباد بن عبد الله، عن عائشة: تهجد النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، فسمع صوت عباد يصلي في المسجد، فقال: "يا عائشة، أصوت عباد هذا؟". قلت: نعم. قال: "اللهم ارحم عبادا".

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: حديث ابن عمر: "إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن.. " الحديث، وقد سلف في بابه: وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى، لا يؤذن حتى يقول له الناس: أصبحت، أصبحت.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: حديث المسور في القباء، وقد سلف. وفيه: فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              التعاليق الأول: خلا عطاء، ذكرها أبو بكر بن أبي شيبة فقال: حدثنا معاذ بن معاذ عن أشعث، عن الحسن وابن سيرين، قالا:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 537 ] شهادة الأعمى جائزة. وحدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري أنه كان يجيز شهادة الأعمى.

                                                                                                                                                                                                                              وحدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، سألت الحكم بن عتيبة فقلت: إن القاسم بن محمد سئل عن الأعمى فقال: تجوز شهادته ويؤم القوم، فقال: وما يمنعه أن يؤم ويشهد!

                                                                                                                                                                                                                              وحدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن الحسن قال: لا تجوز شهادة الأعمى إلا أن يكون شيئا قد رآه قبل أن يذهب بصره.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو محمد ابن حزم: صح عن عطاء أنه أجاز شهادة الأعمى.

                                                                                                                                                                                                                              وأثر الشعبي رواه أبو بكر -يعني: ابن أبي شيبة- عن وكيع عن الحسن بن صالح، وإسرائيل، عن عيسى بن أبي عزة عنه أنه أجاز شهادته.

                                                                                                                                                                                                                              وأثر الحكم رواه أيضا، عن ابن مهدي، عن شعبة، سألت الحكم عن شهادة الأعمى، فقال: رب شيء تجوز فيه. يريد إذا كان شيء يعلم بالصوت، أو اللمس أو نحوه، واحتجاج الزهري بابن عباس; لأنه كف بصره في آخر عمره كأبيه وجده، وكذا ابن عمر، وأبو قحافة، وأبو حميد الساعدي، وغير واحد من التابعين، منهم: عبد الله بن عبد الحكم، وأبو بكر بن عبد الرحمن، ذكره ابن التين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 538 ] وتعليق عائشة سلف في المكاتب، وأثر سمرة ورد حديث يخالفه، أخرجه ابن منده في كتاب "الصحابة" أنه صلى الله عليه وسلم كلمته امرأة وهي منتقبة فقال: "أسفري; فإن الإسفار من الإيمان". وقوله في حديث مخرمة: تكلم، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته فخرج، وقال في رواية أخرى: أمرني أبي فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعله دخل ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا لصوت مخرمة.

                                                                                                                                                                                                                              والتهجد: الصلاة بالليل وإن قلت، وقيل: إنه السهر.

                                                                                                                                                                                                                              وعباد: هو ابن بشر، من كبار الأنصار، وهو أحد صاحبي القضاء، كما نبه عليه ابن التين.

                                                                                                                                                                                                                              واعترض الإسماعيلي فقال: ليس في جميع ما ذكره دلالة على قبول شهادة الأعمى فيما يحتاج إلى إثبات الأعيان.

                                                                                                                                                                                                                              فأما ما ذكره في نكاحه فهو ضرورة الأعمى في نفسه لا لغيره فيه، وما رواه في التأذين فقد أخبر أنه كان لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت، وكفى بخبر الشارع عنه شاهدا له بأنه لا يؤذن حتى يصبح، فلو قال - عليه السلام- لمن قال: إنه صادق فيما يقول كان مصدقا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 539 ] وما قاله عن الزهري في ابن عباس، فإنما هو تهويل لا احتجاج، أترى لو شهد ابن عباس لأبيه أو لابنه أو لمملوكه، أكانت تقبل شهادته؟ وكان أفقه من أن يشهد فيما لا يجوز قبول شهادته فيه، وما ذكره من سماعه - عليه السلام- قراءة رجل بيان أن كل صائت وإن لم ير مصوته يعرف بصوته; لأنه إنما ترحم عليه، (فإذا كان إياه كان نسي أو أسقط); إلا أنه شهد أنه فلان. وما ذكره من قصة مخرمة فإنما يريد محاسن الثوب مسا لا إبصارا له بالعين.

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال: هذا شيء لا يتعداه إلى غيره; لأنه لا ضرر على غيره منه، ومن معرفته ثوب يوهب له أو جهله، والشهادة بشيء احتيج إليها; لأجل الحق بها من العين، وهي البصراء، مندوحة عن الأضواء، وما لا بد للأعمى منه في نفسه فهو مضطر إليه لا سبيل إلى تكليفه فيه غير الممكن، ومن حيث تعلم قلة اشتباه الأصوات والتباسها علينا في الكثير من الناس، كذلك تعلم قلة الاشتباه من الصوت؛ حيث يلتبس على المبصر إلا نادرا، دليل على الشهادات المأخوذ منها بالتثبت مخالفة لما يجري على السهولة، وقد يأذن الصغير والضرير على الإنسان في داره ثم لا تقبل شهادة الصغير، وكذلك الضرير. هذا آخر كلامه، وما حكاه البخاري عن جماعات استفتح بهم الباب شاهد له، وكذا معرفة عائشة صوت سليمان; لأنها لم تره (حالتئذ)، وابن أم مكتوم وإن كان لا ينادي حتى يقال له: أصبحت.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 540 ] فمن سمع بلالا فقد اعتمد على صوته في الأكل والشرب، وبعث ابن عباس الرجل ظاهر في الاعتماد عليه، واكتفى بخبر الواحد مع قرائن الأحوال، كما نبه عليه ابن المنير، ولعل البخاري يشير بحديث ابن عباس إلى شهادة الأعمى على التعريف، أي: تعرف أن هذا فلان، فإذا عرف شهد، وشهادة التعريف مختلف فيها عند مالك، وكذلك البصير إذا لم يعرف نسب الشخص يعرفه نسبه من يثق به، فهل يشهد على فلان بن فلان بنسبه أو لا؟ مختلف فيه أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف العلماء في شهادة الأعمى فأجازها سوى من ذكره البخاري مالك والليث، فيما طريقه الصوت، وسواء علم ذلك قبل العمى أو بعده، قال مالك: وإن شهد على زنا حد للقذف ولم تقبل شهادته، وقال النخعي وابن أبي ليلى: إذا علمه قبل العمى جازت، وما علمه في حال العمى لم يجز، وهو قول أبي يوسف والشافعي.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: ويجوز عندنا فيما إذا قاله في إذنه وتعلق به وشهد عند قاض، وفي الاستفاضة والترجمة، وقال أبو حنيفة ومحمد: لا تجوز شهادته بحال.

                                                                                                                                                                                                                              حجة المجيز: سماعه - عليه السلام- صوت عباد ودعا له، وسمع صوت مخرمة من بيته فعرفه، وكذلك عرفان عائشة صوت سليمان.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 541 ] واحتج مالك بقصة ابن أم مكتوم فقال: وكان أعمى إماما مؤذنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل الشارع وأصحابه والمسلمون المؤذنين في الأوقات والسماع منهم، وقال: إنما حفظ الناس عن أمهات المؤمنين ما حفظوه من وراء حجاب.

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب: والذي سمع صوت ابن أم مكتوم من بيته فعلم أنه الذي أمر الشارع بالكف عن الطعام بصوته، فهو كالأعمى أيضا، يسمع صوت رجل فعرفه فتجوز شهادته عليه بما سمع منه وإن لم يره.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن القصار: والصوت في الشرع قد أقيم مقام الشهادة; ألا ترى أن الأعمى يطأ زوجته بعد أن يعرف صوتها، والإقدام على الفرج واستباحته أعظم من الشهادة في الحقوق.

                                                                                                                                                                                                                              واحتج من لم يجز شهادته فقال: إن العقود والإقرارات لا تجوز الشهادة عليها بالاستفاضة، فكذلك لا تجوز شهادة الأعمى; لأنه لا يتيقن أن هذا صوت فلان لجواز شبهه بصوت غيره؛ كالخط لا يجوز أن يشهد عليه حتى يذكر أنه شاهد فيه; وإنما كان ذلك لأن الخط يشبه الخط، قالوا: وهذه دلالة لا انفصال عنها.

                                                                                                                                                                                                                              والجواب: أن العقود والإقرارات مفتقرة إلى السماع ولا تفتقر إلى المعاينة، بخلاف الأفعال التي تفتقر إلى المعاينة، دليله قوله تعالى: واختلاف ألسنتكم وألوانكم [الروم: 22] فجعل الدلائل على محكم صنعته ووحدانيته اختلاف الألسن والألوان، ثم وجدنا الخلق قد تتشابه كما تتشابه الأصوات.

                                                                                                                                                                                                                              فلما تقرر أنه إذا شهد على عين جاز، وإن جاز تشبه عينا أخرى.

                                                                                                                                                                                                                              كذلك يشهد على الصوت وإن جاز أن يشبه صوتا آخر.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 542 ] قال ابن بطال: وقد رجع مالك عن الشهادة على الخط; لأن الخطوط كثيرة الشبه، وليست الأصوات والخلق كذلك; ألا ترى أنه تعالى ذكر اختلاف الألسنة والألوان ولم يذكر الخطوط.

                                                                                                                                                                                                                              واعترض ابن القابسي فقال: قد روى الأثبات الحكم بشهادة الخط، منهم ابن القاسم وابن وهب، واستمر عليه العمل.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين: قول ابن القاسم وموافقيه هو قول مالك فتقبل شهادته على ما يلمسه من حار أو بارد، فيما يذوقه أنه حلو أو حامض، وفيما يشبهه، وأما ما طريقه الصوت كالإقرار وشبهه فتقبل عنده، وسواء تحملها أعمى، أو بصيرا ثم عمي -خلافا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما- لا تقبل إذا تحملها أعمى.

                                                                                                                                                                                                                              وحكى ابن القصار عن أبي حنيفة أنه إذا تحملها بصيرا ثم عمي لا يؤديها كما أسلفناه، ولا شك أن أمهات المؤمنين أخذ عنهن الصحابة والتابعون من وراء حجاب، وقد قال تعالى: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة [الأحزاب: 34]. وحديث أذان بلال حجة في ذلك كما سلف، وكذا وطؤه زوجته; لأنه إنما يعرفها بالصوت، ومعلوم أن الأعمى يتكرر عليه سماع صوتها فيقع له العلم بذلك، فكان الصوت طريقا يميز به بين الأشخاص.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو محمد بن حزم: شهادة الأعمى مقبولة كالصحيح. روي ذلك عن ابن عباس.

                                                                                                                                                                                                                              وصح عن الزهري وعطاء والقاسم والشعبي وشريح وابن سيرين والحكم بن عتيبة وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري وابن جريج،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 543 ] وأحد قولي إياس بن معاوية، وأحد قولي ابن أبي ليلى، وهو قول مالك والليث وأحمد وإسحاق وأبي سليمان وأصحابنا.

                                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: يجوز فيما عرف قبل العمى، ولا يجوز فيما عرف بعده.

                                                                                                                                                                                                                              وهو أحد قولي الحسن، وأحد قولي ابن أبي ليلى، وهو قول أبي يوسف والشافعي وأصحابه. وقد يحتج له بما روي عنه أنه - عليه السلام- سئل عن الشهادة، فقال: "ألا ترى الشمس؟! على مثلها فاشهد" لكن قال ابن حزم: لا يصح سنده; لأنه من طريق محمد بن سليمان بن مسمول وهو هالك، عن عبد الله بن سلمة بن وهرام وهو ضعيف، لكن معناه صحيح.

                                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: يجوز في الشيء اليسير، روينا ذلك عن النخعي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 544 ] وقالت طائفة: لا يقبل في شيء أصلا إلا في الأنساب وهو قول زفر، ورويناه من طريق عبد الرزاق، عن وكيع، عن أبي حنيفة، ولا يعرف أصحاب هذه الرواية.

                                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: لا يقبل جملة، روينا ذلك عن علي وليس بصحيح عنه; لأنه من طريق الأسود بن قيس، عن أشياخ من قومه عنهم. وعن إياس بن معاوية والحسن بن أبي الحسن والنخعي أنهم كرهوا شهادته.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة: لا يقبل في شيء أصلا، لا فيما عرف قبل العمى ولا فيما عرف بعده، وقد سلف.

                                                                                                                                                                                                                              قال وكيع: ثنا سفيان أن قتادة شهد عند إياس بن معاوية فرد شهادته.

                                                                                                                                                                                                                              وسئل إبراهيم عنها، فحدث بحديث كأنه كرهه.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: فتحصلنا فيه على ستة مذاهب: المنع المطلق، والجواز المطلق، والجواز فيما طريقه الصوت دون البصر، الفرق بين ما علمه قبل وما لم يعلمه، الجواز في اليسير، الجواز في الأنساب خاصة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية