الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال ( ولو وقف نصف أرض ، أو نصف دار مشاعا على الفقراء فذلك جائز في قول [ ص: 37 ] أبي يوسف رحمه الله ) ; لأن القسمة من تتمة القبض فإن القبض للحيازة وتمام الحيازة فيما يقسم بالقسمة ، ثم أصل القبض عنده ليس بشرط في الصدقة الموقوقة . فكذلك ما هو من تتمة الوقف ، وهذا ; لأن الوقف على مذهبه قياس العتق والشيوع لا يمنع العتق . فكذلك لا يمنع الوقف إلا أن العتق لا يتجزأ عنده لما في التجزيء من تضاد الأحكام عنده في محل واحد ، وذلك لا يوجد في الوقف فيحتمل التجزيء ويتم مع الشيوع في القدر الذي أوقفه .

وأما عند محمد رحمه الله لا يتم الوقف مع الشيوع فيما يحتمل القسمة ; لأن على مذهبه أصل القبض شرط لتمام الوقف . فكذلك ما يتم به القبض وتمام القبض فيما يحتمل القسمة بالقسمة واعتبره بالصدقة المنفذة فإنها لا تتم في مشاع يحتمل القسمة كالهبة ، ويتم في مشاع لا يحتمل القسمة ; لأنه بالقسمة يتلاشى فلا تكون القسمة فيه حيازة . فكذلك الصدقة الموقوفة تجوز في مشاع لا يحتمل القسمة ، ولا تجوز في مشاع يحتمل القسمة ما لم يقسم ، وعلى هذا الخان والمقبرة والمسجد والسقاية يعني فيما يحتمل القسمة ; لأنه لا يتم من الشيوع عند محمد رحمه الله تعالى .

فأما المسجد والمقبرة لا تتم مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة ; لأن بقاء الشركة يمنع أن تكون البقعة لله تعالى خالصا ، ولأنا لو جوزنا ذلك وقعت الحاجة إلى المهايأة فتقبر فيه الموتى في سنة ، ثم تنبش في سنة أخرى ويزرع لمراعاة حق المالك ويصلي الناس في المسجد في وقت ويتخذ إصطبلا في وقت آخر بحكم المهايأة ، وذلك ممتنع بخلاف الوقف فالمقصود هناك الاستغلال فيما بقي منه ملكا ، وفيما صار منه وقفا فلو جاز مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة لا يؤدي إلى تضاد الأحكام بل يستغل وتقسم الغلة على قدر الملك والوقف منه ، وذلك صحيح .

وكذلك لو جعل جميع الأرض ، أو الدار لشيء من ذلك وأخرجه من يده ، ثم استحق بعضه مشاعا بطل في الكل ورجع الباقي إليه في حياته وإلى وارثه بعد وفاته ; لأن بالاستحقاق يتبين بطلان تصدقه في القدر المستحق ; لأنه لم يكن مملوكا له يومئذ ، ولا أجازه مالكه ، ولو جاز في القدر المملوك لكان لزومه ابتداء في الجزء الشائع ، وقد بينا أن ذلك لا يجوز فيما لا يحتمل القسمة ، وهذا بخلاف ما إذا فعله في مرضه ، ثم مات ، ولا مال له سواه فأبطله الوارث فيما زاد عن الثلث بقي الثلث صحيحا ; لأن حق الوارث إنما يثبت بعد الموت فإبطاله في القدر الذي له إبطاله يقتصر على هذه الحالة فلا يتبين به أن ابتداء الوقف في الجزء الشائع وأصل هذا الفرق في الهبة والصدقة المنفذة فإن رجوع الوارث في البعض كرجوع الواهب ، وذلك لا يمنع بقاء الهبة فيما بقي ; لأنه شيوع طارئ .

[ ص: 38 ] فكذلك في الصدقة الموقوفة ، وإن استحق بعضه مميزا بعينه كان ما فعله جائزا فيما بقي ماضيا لوجهه ; لأن بهذا الاستحقاق لم يتبين الشيوع فيما بقي فإن المستحق مميز مما بقي فهو بمنزلة دارين وقفهما فاستحقت إحداهما ، وكذلك الحكم في الصدقة المنفذة إذا كان المستحق مميزا يقرر الصدقة فيما بقي ، وكذلك الحكم في الهبة بخلاف ما إذا استحق جزءا شائعا ، ولا فرق عند استحقاق الجزء الشائع بين أن يكون المستحق كثيرا ، أو لم يكن ; لأن المانع الشيوع ، وقد تحقق ذلك باستحقاق جزء قل ذلك ، أو كثر .

التالي السابق


الخدمات العلمية