الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      أخبرنا أبو علي بن الخلال ، أخبرنا أبو الفضل الهمداني ، أخبرنا أبو طاهر السلفي ، أخبرنا محمد بن مرزوق الزعفراني ، حدثنا الحافظ أبو بكر [ ص: 284 ] الخطيب قال : أما الكلام في الصفات ، فإن ما روي منها في السنن الصحاح ، مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ، ونفي الكيفية والتشبيه عنها ، وقد نفاها قوم ، فأبطلوا ما أثبته الله ، وحققها قوم من المثبتين ، فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف ، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين ، ودين الله -تعالى- بين الغالي فيه والمقصر عنه . والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات ، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله ، فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف .

                                                                                      فإذا قلنا : لله يد وسمع وبصر ، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه ، ولا نقول : إن معنى اليد القدرة ، ولا إن معنى السمع والبصر العلم ، ولا نقول : إنها جوارح . ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل ، ونقول : إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها ، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله : ليس كمثله شيء ولم يكن له كفوا أحد .

                                                                                      قال ابن النجار : ولد الخطيب بقرية من أعمال نهر الملك ، وكان أبوه خطيبا بدرزيجان ، ونشأ هو ببغداد ، وقرأ القراءات بالروايات ، وتفقه على الطبري ، وعلق عنه شيئا من الخلاف ، إلى أن قال : وروى عنه محمد بن عبد الملك بن خيرون ، وأبو سعد أحمد بن محمد الزوزني ، ومفلح بن [ ص: 285 ] أحمد الدومي ، والقاضي محمد بن عمر الأرموي ، وهو آخر من حدث عنه . يعني بالسماع .

                                                                                      وروى عنه بالإجازة طائفة عددت في " تاريخ الإسلام " آخرهم مسعود بن الحسن الثقفي ، ثم ظهرت إجازته له ضعيفة مطعونا فيها ، فليعلم ذلك .

                                                                                      وكتابة الخطيب مليحة مفسرة ، كاملة الضبط ، بها أجزاء بدمشق رأيتها . وقرأت بخطه : أخبرنا علي بن محمد السمسار ، أخبرنا ابن المظفر ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحجاج ، حدثنا جعفر بن نوح ، حدثنا محمد بن عيسى ، سمعت يزيد بن هارون يقول : ما عزت النية في الحديث إلا لشرفه .

                                                                                      قال أبو منصور علي بن علي الأمين : لما رجع الخطيب من الشام كانت له ثروة من الثياب والذهب ، وما كان له عقب ، فكتب إلى القائم بأمر الله : إن مالي يصير إلى بيت مال ، فائذن لي حتى أفرقه فيمن شئت . فأذن له ، ففرقها على المحدثين .

                                                                                      قال الحافظ بن ناصر : أخبرتني أمي أن أبي حدثها قال : كنت أدخل على الخطيب ، وأمرضه ، فقلت له يوما : يا سيدي ! إن أبا الفضل بن خيرون لم يعطني شيئا من الذهب الذي أمرته أن يفرقه على أصحاب الحديث . فرفع الخطيب رأسه من المخدة ، وقال : خذ هذه الخرقة ، بارك [ ص: 286 ] الله لك فيها . فكان فيها أربعون دينارا ، فأنفقتها مدة في طلب العلم .

                                                                                      وقال مكي الرميلي : مرض الخطيب في نصف رمضان ، إلى أن اشتد الحال به في غرة ذي الحجة ، وأوصى إلى ابن خيرون ووقف كتبه على يده ، وفرق جميع ماله في وجوه البر وعلى المحدثين ، وتوفي في رابع ساعة من يوم الاثنين سابع ذي الحجة من سنة ثلاث وستين ثم أخرج بكرة الثلاثاء ، وعبروا به إلى الجانب الغربي ، وحضره القضاة والأشراف والخلق . وتقدم في الإمامة أبو الحسين بن المهتدي بالله فكبر عليه أربعا ، ودفن بجنب قبر بشر الحافي .

                                                                                      وقال ابن خيرون : مات ضحوة الاثنين ، ودفن بباب حرب . وتصدق بماله وهو مائتا دينار ، وأوصى بأن يتصدق بجميع ثيابه ، ووقف جميع كتبه ، وأخرجت جنازته من حجرة تلي النظامية ، وشيعه الفقهاء والخلق ، وحملوه إلى جامع المنصور ، وكان بين يدي الجنازة جماعة ينادون : هذا الذي كان يذب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الكذب ، هذا الذي كان يحفظ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم . وختم على قبره عدة ختمات . [ ص: 287 ]

                                                                                      وقال الكتاني في " الوفيات " : ورد كتاب جماعة أن الحافظ أبا بكر توفي في سابع ذي الحجة ، وحمل جنازته الإمام أبو إسحاق الشيرازي . وكان ثقة حافظا ، متقنا متحريا مصنفا .

                                                                                      قال أبو البركات إسماعيل بن أبي سعد الصوفي : كان الشيخ أبو بكر بن زهراء الصوفي برباطنا ، قد أعد لنفسه قبرا إلى جانب قبر بشر الحافي ، وكان يمضي إليه كل أسبوع مرة ، وينام فيه ، ويتلو فيه القرآن كله ، فلما مات أبو بكر الخطيب ، كان قد أوصى أن يدفن إلى جنب قبر بشر ، فجاء أصحاب الحديث إلى ابن زهراء ، وسألوه أن يدفنوا الخطيب في قبره ، وأن يؤثره به ، فامتنع ، وقال : موضع قد أعددته لنفسي يؤخذ مني ! . فجاءوا إلى والدي وذكروا له ذلك ، فأحضر ابن زهراء وهو أبو بكر أحمد بن علي الطريثيثي فقال : أنا لا أقول لك أعطهم القبر ، ولكن أقول لك : لو أن بشرا الحافي في الأحياء وأنت إلى جانبه ، فجاء أبو بكر الخطيب ليقعد دونك ، أكان يحسن بك أن تقعد أعلى منه ؟ قال : لا ، بل كنت أجلسه مكاني . قال : فهكذا ينبغي أن تكون الساعة . قال : فطاب قلبه ، وأذن .

                                                                                      قال أبو الفضل بن خيرون : جاءني بعض الصالحين وأخبرني لما مات [ ص: 288 ] الخطيب أنه رآه في النوم ، فقال له : كيف حالك ؟ قال : أنا في روح وريحان وجنة نعيم .

                                                                                      وقال أبو الحسن علي بن الحسين بن جدا : رأيت بعد موت الخطيب كأن شخصا قائما بحذائي ، فأردت أن أسأله عن أبي بكر الخطيب ، فقال لي ابتداء : أنزل وسط الجنة حيث يتعارف الأبرار . رواها البرداني في كتاب " المنامات " عنه .

                                                                                      قال غيث الأرمنازي : قال مكي الرميلي : كنت نائما ببغداد في ربيع الأول سنة ثلاث وستين وأربعمائه ، فرأيت كأنا اجتمعنا عند أبي بكر الخطيب في منزله لقراءة " التاريخ " على العادة ، فكأن الخطيب جالس ، والشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي عن يمينه ، وعن يمين نصر رجل لم أعرفه ، فسألت عنه ، فقيل : هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء ليسمع " التاريخ " فقلت في نفسي : هذه جلالة لأبي بكر إذ يحضر رسول الله مجلسه ، وقلت : هذا رد لقول من يعيب " التاريخ " ويذكر أن فيه تحاملا على أقوام .

                                                                                      قال أبو الحسن محمد بن مرزوق الزعفراني : حدثني الفقيه الصالح حسن بن أحمد البصري قال : رأيت الخطيب في المنام وعليه ثياب بيض حسان وعمامة بيضاء ، وهو فرحان يتبسم ، فلا أدري قلت : ما فعل الله بك ؟ أو هو بدأني ، فقال : غفر الله لي ، أو : رحمني ، وكل من يجيء -فوقع لي أنه يعني بالتوحيد- إليه يرحمه ، أو يغفر له ، فأبشروا ، وذلك بعد وفاته بأيام . [ ص: 289 ]

                                                                                      قال المؤتمن : تحاملت الحنابلة على الخطيب حتى مال إلى ما مال إليه .

                                                                                      قلت : تناكد ابن الجوزي -رحمه الله- وغض من الخطيب ، ونسبه إلى أنه يتعصب على أصحابنا الحنابلة .

                                                                                      قلت : ليت الخطيب ترك بعض الحط على الكبار فلم يروه .

                                                                                      قال أبو سعد السمعاني : للخطيب ستة وخمسون مصنفا : " التاريخ " مائة جزء وستة أجزاء . " شرف أصحاب الحديث " ثلاثة أجزاء ، " الجامع " خمسة عشر جزءا ، " الكفاية " ثلاثة عشر جزءا ، " السابق [ ص: 290 ] واللاحق " عشرة أجزاء " المتفق والمفترق " ثمانية عشر جزءا ، " المكمل في المهمل " ستة أجزاء ، " غنية المقتبس في تمييز الملتبس " ، " من وافقت كنيته اسم أبيه " ، " الأسماء المبهمة " مجلد ، " الموضح " أربعة عشر جزءا ، " من حدث ونسي " جزء ، " التطفيل " ثلاثة أجزاء ، " القنوت " ثلاثة أجزاء ، " الرواة عن مالك " ستة أجزاء ، [ ص: 291 ] " الفقيه والمتفقه " مجلد " تمييز متصل الأسانيد " مجلد ، " الحيل " ثلاثة أجزاء ، " الإنباء عن الأبناء " جزء ، " الرحلة " جزء ، " الاحتجاج بالشافعي " جزء ، " البخلاء " في أربعة أجزاء ، " المؤتنف في تكميل المؤتلف " ، " كتاب البسملة وأنها من الفاتحة " " الجهر بالبسملة " جزآن ، " مقلوب الأسماء والأنساب " مجلد ، " جزء اليمين مع الشاهد " " أسماء المدلسين " " اقتضاء العلم العمل " " تقييد العلم " ثلاثة أجزاء ، " القول في [ ص: 292 ] النجوم " جزء ، " رواية الصحابة عن تابعي " جزء ، " صلاة التسبيح " جزء ، " مسند نعيم بن حماد " جزء ، " النهي عن صوم يوم الشك " ، " إجازة المعدوم والمجهول " جزء ، " ما فيه ستة تابعيون " جزء .

                                                                                      وقد سرد ابن النجار أسماء تواليف الخطيب ، وزاد أيضا له : " معجم الرواة عن شعبة " ثمانية أجزاء ، " المؤتلف والمختلف " أربعة وعشرون جزءا ، " حديث محمد بن سوقة " أربعة أجزاء ، " المسلسلات " ثلاثة أجزاء ، " الرباعيات " ثلاثة أجزاء ، " طرق قبض العلم " ثلاثة أجزاء ، " غسل الجمعة " ثلاثة أجزاء ، " الإجازة للمجهول " .

                                                                                      أنشدني أبو الحسين الحافظ ، أنشدنا جعفر بن منير ، أنشدنا السلفي لنفسه : [ ص: 293 ]

                                                                                      تصانيف ابن ثابت الخطيب ألذ من الصبا الغض الرطيب     يراها إذ رواها من حواها
                                                                                      رياضا للفتى اليقظ اللبيب     ويأخذ حسن ما قد صاغ منها
                                                                                      بقلب الحافظ الفطن الأريب     فأية راحة ونعيم عيش
                                                                                      يوازي كتبها بل أي طيب



                                                                                      رواها السمعاني في " تاريخه " ، عن يحيى بن سعدون ، عن السلفي .

                                                                                      أخبرنا أبو الغنائم المسلم بن محمد ، ومؤمل بن محمد كتابة قالا : أخبرنا زيد بن الحسن ، أخبرنا أبو منصور القزاز ، أخبرنا أبو بكر الخطيب ، أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد الأهوازي ، أخبرنا محمد بن جعفر المطيري ، حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، عن عبيد الله بن عمر ، عن أسامة بن زيد ، عن عراك بن مالك ، عن أبي هريرة ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ليس في الخيل والرقيق زكاة ، إلا أن في الرقيق صدقة الفطر [ ص: 294 ] .

                                                                                      وبه : قال الخطيب : أخبرنا علي بن القاسم الشاهد من حفظه ، حدثنا أبو روق الهزاني ، حدثنا أبو حفص عمرو بن علي سنة سبع وأربعين ومائتين ، حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن أنس قال : كانت أم سليم مع نسوة من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر ، وكان حاديهم يقال له : أنجشة ، فناداه النبي -صلى الله عليه وسلم- : رويدا يا أنجشة سوقك بالقوارير .

                                                                                      قال أبو الخطاب بن الجراح المقرئ يرثي الخطيب بأبيات ،

                                                                                      منها فاق الخطيب الورى صدقا ومعرفة     وأعجز الناس في تصنيفه الكتبا
                                                                                      حمى الشريعة من غاو يدنسها     بوضعه ونفى التدليس والكذبا
                                                                                      جلى محاسن بغداد فأودعها     تاريخه مخلصا لله محتسبا
                                                                                      [ ص: 295 ] وقال في الناس بالقسطاس منحرفا     عن الهوى وأزال الشك والريبا
                                                                                      سقى ثراك أبا بكر على ظمأ     جون ركام تسح الواكف السربا
                                                                                      ونلت فوزا ورضوانا ومغفرة     إذا تحقق وعد الله واقتربا
                                                                                      يا أحمد بن علي طبت مضطجعا     وباء شانيك بالأوزار محتقبا



                                                                                      وللخطيب نظم جيد ، فروى المبارك بن الطيوري عنه لنفسه

                                                                                      تغيب الخلق عن عيني سوى قمر     حسبي من الخلق طرا ذلك القمر
                                                                                      محله في فؤادي قد تملكه     وحاز روحي فما لي عنه مصطبر
                                                                                      والشمس أقرب منه في تناولها     وغاية الحظ منه للورى نظر
                                                                                      وددت تقبيله يوما مخالسة     فصار من خاطري في خده أثر
                                                                                      وكم حليم رآه ظنه ملكا     وردد الفكر فيه أنه بشر



                                                                                      قال غيث بن علي : أنشدنا الخطيب لنفسه :

                                                                                      إن كنت تبغي الرشاد محضا     لأمر دنياك والمعاد
                                                                                      [ ص: 296 ] فخالف النفس في هواها     إن الهوى جامع الفساد



                                                                                      أبو القاسم النسيب : أنشدنا أبو بكر الخطيب لنفسه

                                                                                      لا تغبطن أخا الدنيا لزخرفها     ولا للذة وقت عجلت فرحا
                                                                                      فالدهر أسرع شيء في تقلبه     وفعله بين للخلق قد وضحا
                                                                                      كم شارب عسلا فيه منيته     وكم تقلد سيفا من به ذبحا



                                                                                      ومات مع الخطيب حسان بن سعيد المنيعي وأبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن زيدون شاعر الأندلس وأبو سهل حمد بن ولكيز بأصبهان ، وعبد الواحد بن أحمد المليحي وأبو الغنائم محمد بن علي الدجاجي وأبو بكر محمد بن أبي الهيثم الترابي بمرو ، وأبو علي محمد بن وشاح الزينبي ، والحافظ أبو عمر بن عبد البر وأبو طاهر أحمد بن محمد العكبري ، عن ثلاث وسبعين سنة ، وهو أخو أبي منصور النديم [ ص: 297 ] وشيخ الشيعة أبو يعلى محمد بن حسن بن حمزة الطالكي الجعفري ; صهر الشيخ المفيد .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية