الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 5135 ) فصل : والناس في النكاح على ثلاثة أضرب ; منهم من يخاف على نفسه الوقوع في محظور إن ترك النكاح ، فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة الفقهاء ; لأنه يلزمه إعفاف نفسه ، وصونها عن الحرام ، وطريقه النكاح . الثاني ، من يستحب له ، وهو من له شهوة يأمن معها الوقوع في محظور ، فهذا الاشتغال له به أولى من التخلي لنوافل العبادة . وهو قول أصحاب الرأي . وهو ظاهر قول الصحابة رضي الله عنهم ، وفعلهم . قال ابن مسعود : لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام ، وأعلم أني أموت في آخرها يوما ، ولي طول النكاح فيهن ، لتزوجت مخافة الفتنة

                                                                                                                                            وقال ابن عباس لسعيد بن جبير : تزوج ، فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء . وقال إبراهيم بن ميسرة : قال لي طاوس : لتنكحن ، أو لأقولن لك ما قال عمر لأبي الزوائد : ما يمنعك عن النكاح إلا عجز أو فجور . قال أحمد رحمه الله في رواية المروذي : ليست العزبة من أمر الإسلام ، في شيء . وقال : من دعاك إلى غير التزويج ، فقد دعاك إلى غير الإسلام ، ولو تزوج بشر كان قد تم أمره . وقال الشافعي : التخلي لعبادة الله تعالى أفضل ; لأن الله تعالى مدح يحيى عليه السلام بقوله : { وسيدا وحصورا } والحصور : الذي لا يأتي النساء فلو كان النكاح أفضل لما مدح بتركه .

                                                                                                                                            وقال الله تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين } . وهذا في معرض الذم ، ولأنه عقد معاوضة ، فكان الاشتغال بالعبادة أفضل منه ، كالبيع . ولنا ، ما تقدم من أمر الله تعالى ورسوله به وحثهما عليه ، { وقال صلى الله عليه وسلم : ولكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني } . وقال سعد : لقد { رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل } ، ولو أحله له لاختصينا متفق عليهما .

                                                                                                                                            وعن أنس قال { : كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة ، وينهى عن التبتل نهيا شديدا ، ويقول : تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة . } رواه سعيد .

                                                                                                                                            وهذا حث على النكاح شديد ، ووعيد على تركه يقربه إلى الوجوب ، والتخلي منه إلى التحريم ، ولو كان التخلي أفضل لانعكس الأمر ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ، وبالغ في العدد ، وفعل ذلك أصحابه ، ولا يشتغل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا بالأفضل ، ولا تجتمع الصحابة على ترك الأفضل ، والاشتغال بالأدنى ، ومن العجب أن من [ ص: 5 ] يفضل التخلي لم يفعله .

                                                                                                                                            فكيف أجمعوا على النكاح في فعله ، وخالفوه في فضله ، أفما كان فيهم من يتبع الأفضل عنده ويعمل بالأولى ؟ ولأن مصالح النكاح أكثر ، فإنه يشتمل على تحصين الدين ، وإحرازه ، وتحصين المرأة وحفظها ، والقيام بها ، وإيجاد النسل ، وتكثير الأمة ، وتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من المصالح الراجح أحدها على نفل العبادة ، فمجموعها أولى . وقد روينا في أخبار المتقدمين ، أن قوما ذكروا لنبي لهم فضل عابد لهم ، فقال : أما إنه لتارك لشيء من السنة ، فبلغ العابد ، فأتى النبي ، فسأله عن ذلك ، فقال : إنك تركت التزويج . فقال : يا نبي الله ، وما هو إلا هذا ، فلما رأى النبي احتقاره لذلك ، قال : أرأيت لو ترك الناس كلهم التزويج من كان يقوم بالجهاد ، وينفي العدو ، ويقوم بفرائض الله تعالى وحدوده ؟ وأما ما ذكر عن يحيى ، فهو شرعه ، وشرعنا وارد بخلافه ، فهو أولى

                                                                                                                                            والبيع لا يشتمل على مصالح النكاح ، ولا يقاربها . القسم الثالث ، من لا شهوة له ، إما لأنه لم يخلق له شهوة كالعنين ، أو كانت له شهوة فذهبت بكبر أو مرض ونحوه ، ففيه وجهان ; أحدهما ، يستحب له النكاح ; لعموم ما ذكرنا . والثاني ، التخلي له أفضل ; لأنه لا يحصل مصالح النكاح ، ويمنع زوجته من التحصين بغيره ، ويضر بها ، ويحبسها على نفسه ، ويعرض نفسه لواجبات وحقوق لعله لا يتمكن من القيام بها ، ويشتغل عن العلم والعبادة بما لا فائدة فيه

                                                                                                                                            والأخبار تحمل على من له شهوة ; لما فيها من القرائن الدالة عليها . وظاهر كلام أحمد أنه لا فرق بين القادر على الإنفاق والعاجز عنه ، قال : ينبغي للرجل أن يتزوج ، فإن كان عنده ما ينفق ، أنفق ، وإن لم يكن عنده ، صبر ، ولو تزوج بشر كان قد تم أمره . واحتج { بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح وما عندهم شيء ، ويمسي وما عندهم شيء } . { وأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا لم يقدر على خاتم حديد ، ولا وجد إلا إزاره ، ولم يكن له رداء . } أخرجه البخاري

                                                                                                                                            قال أحمد ، في رجل قليل الكسب ، يضعف قلبه عن العيال : الله يرزقهم ، التزويج أحصن له ، ربما أتى عليه وقت لا يملك قلبه . وهذا في حق من يمكنه التزويج ، فأما من لا يمكنه ، فقد قال الله تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله . }

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية