بدعة التقليد
ونظيره اليوم
nindex.php?page=treesubj&link=22311_28823بدعة التقليد; فإنه منذ أحدثه الأقوام ، نزع الله منهم سنة الاتباع الذي أمروا به ، ثم لم يعده إليهم إلى الآن ، ولا عبرة بشرذمة قليلة من القبائل الشاذة الفاذة ، فإن الحكم للأكثر ، وللأكثر حكم الكل .
ولا شك أن المقلدين أكثر ، والمحدثين أقل
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13وقليل من عبادي الشكور [سبأ : 13] ، ولا تعجبك كثرة الخبيث .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود - رضي الله عنه ، قال : «من كان مستنا» ; أي يريد السلوك على الصراط السوي ، وسواء السبيل ، والطريق القويم ، والهدى المستقيم ، فليستن بمن قد مات» ; أي : يقتدي بالمئتين عن الدنيا على الإسلام والعلم والعمل; فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة .
قال في «الأشعة» : هذا القول قاله
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود في زمانه للتابعين ، ونصحهم .
وأراد بمن مات : الصحابة ، وبالحي : أهل زمنه غير الصحابة «أولئك
nindex.php?page=treesubj&link=28811أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا أفضل هذه الأمة» ممن سواهم ، وأبرها قلوبا ، وأعمقها علما; أي : أكثرها غورا من جهة العلم النافع ، وأدقها فهما في اتباع الكتاب والسنة ، «وأقلها تكلفة» ; أي : تصنعا ورياء وسمعة ، ومراعاة للرسوم والعادات المتعارفة بين الناس ، قال تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=86وما أنا من المتكلفين [ص : 86] .
«اختارهم الله لصحبة نبيه ، وإقامة دينه» ، وهذا يدل على أفضليتهم
[ ص: 59 ] وأكمليتهم; لأن الله لما اصطفاهم من بين الخلق أجمعين ، وجعلهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، علم أنهم أفضل الخلائق ، وأخيار الأمة ، وجواهر نفوسهم أليق وأحرى بانعكاس أنوار الهداية والإيمان .
كما قال تعالى في القرآن :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=26وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها [الفتح : 29] .
وقد وردت أحاديث في اصطفاء الصحابة واختيارهم على من سواهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم .
فالويل كل الويل لمن يسبهم ويشتمهم ، ولا يعرف فضلهم; كالرافضة ومن ضاهاهم في هذه الصفة الملعونة .
«فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم على أثرهم» ; أي : في العلم النافع ، والعمل الصالح ، وإخلاص التوحيد ، ومحوضة الاتباع السديد .
«وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم; فإنهم كانوا على الهدى المستقيم» ; لأنهم كانوا أتباع الرسول الكريم ، في كل نقير وقطمير ، وحقير وجليل ، ووضيع وعظيم . رواه رزين .
وفي هذا الحديث دليل على
nindex.php?page=treesubj&link=28811إيثار آثار الصحابة والتمسك بأخلاقهم المرضية ، وسيرهم السنية ، المبنية على صرافة السنة الصحيحة المأثورة .
ولا شك أنهم أحق بذلك بعد الاعتصام بأدلة الكتاب والسنة ، ثم الأمثل فالأمثل .
والتمسك غير التقليد لغة واصطلاحا ، وكذلك الاقتداء ، ولهذا قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90فبهداهم اقتده [الأنعام : 90] .
ولم أقف على قول لعالم يعتمد عليه : أنه فسر هذه الألفاظ بالتقليد ، بل فيه إشارة إلى ترك تقليد الرجال; لأن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود حصر التمسك فيهم ، ولم يرشد إلى التمسك بمن بعدهم من أئمة الأمة .
[ ص: 60 ] فخرج بذلك تقليدات الأئمة الأربعة الفقهاء ، الكائنين بعد عصر الصحابة .
ولهذا نهى الأربع المذكورون عن تقليدهم ، وتقليد غيرهم ، لاسيما أعظمهم وأفقههم .
كيف ، وهو يقتدي روايات
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، في كثير من فتاواه ، ولا ينبغي له أن يخالفه في هذه الفتوى .
ولهذا روي عنه - رحمه الله تعالى - : أنه قال : ما جاء عن الصحابة ، فعلى الرأس والعين ، وما جاء عن التابعين ، زاحمناهم ، فإنهم رجال ، ونحن رجال .
وهذا القول من ذاك الإمام الأعظم أدل دليل على ترك التقليد ، وإرشاد منه لغيره إليه ، وهو اللائق بعظمة إمامته ، بل هذا من علامات إمامة الأئمة .
وعلى هذا درج سلف هذه الأمة وأئمتها قاطبة ، ولم يخالفهم أحد ، إلا من لا يعتد به ، ولا يلتفت إليه ، من أفراخ الرأي ، وأبناء البدع ، وأصحاب الجدل وأرباب الجهل ، ومقلدة دينهم الأحبار والرهبان - عافانا الله منه .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=31سهل بن سعد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=656097«إني فرطكم على الحوض» .
«الفرط» - بفتحتين - : الفارط المتقدم إلى المنزل لإصلاح الحياض والدلاء والأرشية; أي : أنا سابقكم المتهيئ لكم ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=656097«من مر علي شرب» من شرب الحوض ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=656097«ومن شرب ، لم يظمأ أبدا ، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني» ، قيل : لعلهم الذين قال فيهم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=691633أصحابي ، ثم يحال بيني وبينهم ، فأقول : إنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقا سحقا لمن غير بعدي» ; أي : بعدا أو هلاكا . متفق عليه .
وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنه - ، عن النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=653191«إن ناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال» ; أي : التي يذهبون بالعصاة إليها ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=654259«فأقول : أصيحابي أصيحابي» على صيغة جمع القلة والتصغير; لقلة عددهم; «فيقول» ;
[ ص: 61 ] أي : الله سبحانه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=653191«إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح - أي : عيسى عليه السلام - معتذرا واستخلاصا لقومه :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=117وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله : nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118العزيز الحكيم متفق عليه .
وتمام الآية :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=117ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [المائدة : 117- 118] .
قال في «أشعة اللمعات» : قالوا : ليس المراد بهذا خواص الأصحاب; لأنا نعلم يقينا أنه لم يرتد أحد منهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا قوم من جفاة العرب من أصحاب
«مسيلمة الكذاب» ، و
«أسود العنسي» ، أو بعض مؤلفة القلوب الذين لم تكن لهم بصيرة بالدين ، ولا قوة في الإيمان .
أو المراد بالردة : خروج عن حد الاستقامة في بعض الحقوق ، وإصلاح السريرة في بعض الأمور ، والرجوع عن مرتبة حسن الأخلاق ، وصدق النية ، والتقصير في بعض الحقوق ، ورعاية أهل البيت في التأدب معهم ، للابتلاء بالدنيا والفتن; لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :
«لا أخاف عليكم الكفر وعبادة الأوثان ، إنما أخاف عليكم الدنيا وآفاتها» ، كذا قالوا ، لا رجوعهم عن دين الإسلام . انتهى .
وبالجملة : فقد دل الحديث على
nindex.php?page=treesubj&link=30175نفي علم الغيب عنه صلى الله عليه وسلم; لقوله : «لا تدري» ، ودل على وقوع الأحداث بعده صلى الله عليه وسلم لا في الأمة ، وأي أمة هي أفضل الأمة ، لأن الحديث الثاني زاده إيضاحا بقوله : «أصيحابي» .
وحيث إن كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في لحظة ، وأسلم ، يطلق عليه لفظ : «الصاحب» ، صح أن بعض من كان صاحب بهذه الصفة أحدث شيئا بعد النبي صلى الله عليه وسلم; لعدم رسوخه في الإسلام ، وهذا خاص بمثل هذه الأصيحاب .
ومن عمم الحديث فيهم ، فقد غلط غلطا بينا; لأن نفس الحديث يرد عليه مراده هذا; كالرافضة - قاتلهم الله -; فإنهم تعلقوا بهذا الحديث في إثبات ردة أكابر الصحابة ، لاسيما الراشدين منهم ، ولا حجة لهم في ذلك .
[ ص: 62 ] والحديث دل أيضا على الدعاء على أهل الإحداث وهو ضد الاتباع .
nindex.php?page=hadith&LINKID=667821وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
ودل الاستشهاد في الحديث الثاني بقول العبد الصالح المذكور : على أن
nindex.php?page=treesubj&link=31994عيسى - عليه السلام - كان عبدا ، ولم يكن يعلم الغيب .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=656737«كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» ; أي : امتنع من قبول ما جئت به; كأهل البدع ، من التقليد وغيره; فإنهم أبوا أن يتبعوا الكتاب والسنة ، وتمسكوا في مقابلته بالتفريعات المحدثة ، والتخريجات المبتدعة ، واتخذوها دينا .
nindex.php?page=hadith&LINKID=656737قيل : ومن أبى؟ قال : «من أطاعني» باتباع سنتي والاعتصام بكتاب الله ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=656737«دخل الجنة ، ومن عصاني» ولم يعمل بما جئت به من القرآن والحديث ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=656737«فقد أبى» رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري .
قال في الترجمة : أي : عصاني بإيثار البدعة واتباع هوى النفس ، فقد عتا ، ولا يدخل الجنة . انتهى .
وهذا ظاهر في عدم دخول المبتدعة في الجنة . وفي ذلك من الوعيد ما لا يقادر قدره .
وبهذا تقرر أن الابتداع عصيان للرسول ، كما أن الاتباع إطاعة له - عليه السلام - ، وقد قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59أطيعوا الله وأطيعوا الرسول [النساء : 59] .
وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس مرفوعا في قصة ثلاثة رهط :
nindex.php?page=hadith&LINKID=654675«أما والله! إني لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي ، فليس مني» متفق عليه .
أي : من أعرض عن سنتي استهانة ، وزهدا ، فليس من أشياعي ، وكل من لا يتبع السنة فإنه مستهين بها زاهد فيها .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=650077«مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها [ ص: 63 ] الناس ، فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان ، لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ، ونفعه ما بعثني الله به ، فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» متفق عليه .
في «أجادب» روايات ، أصحها : أنها جمع «جدب» ، وهو الأرض الصلبة الماسكة للماء ، التي لا تنبت الكلأ .
و «الكلأ» - بالهمز [والكاف] واللام المفتوحتين مقصورا - هو على زنة جبل يقع على الرطب واليابس . و «العشب» - بالضم - ، و «الكلأ» - مقصورا - : مختصان بالرطب . و «القيعان» : جمع «قاع» ، وهي الأرض المستوية .
ذكر في هذا الحديث أن الناس قسمان : منتفع بدينه ، وغير منتفع به . وكذلك الأرض على قسمين : منتفعة بالماء ، وغير منتفعة به . والمنتفعة نوعان : منبت ، وغير منبت . وكذلك المنتفع بالدين على صنفين :
أحدهما : عالم عابد ، متفقه ، متفهم ، معلم كالطائفة الطيبة من الأرض التي قبلت الماء ، وأنبتت الكلأ ، ونفعت غيرها .
والثاني : عالم معلم غير متعبد بالنوافل ، لم يتفقه فيما جمع من العلم ، كالأرض الجدبة التي أمسكت الماء ، وانتفع به الناس .
وأما من لم يرفع رأسه ، ولم يلتفت إلى العلم قطعا ، أو التفت ولم يعمل به مطلقا ، ولم يعلم أحدا ، سواء دخل في الدين ، أو لم يدخل ، وبقي كافرا ، فهو كالقاع لم يمسك ماء ، ولم ينبت كلأ . هذا خلاصة ما ذكره شراح «صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري» .
قال في الترجمة : ويمكن أن يقال : إن القسم الأول : عبارة عمن تعلم واجتهد ، واستنبط المعاني والنكات والأسرار ، وشرح وبين; كالفقهاء
[ ص: 64 ] المجتهدين ، والعلماء المتقنين المحققين; فإنه كالكلأ النابت من الأرض وثمراتها ونتائجها .
والثاني : عبارة عمن تعلم ، وجمع العلم ، ووعاه ، وحفظه ، وأدى الأمانات بعينها وجنسها إلى أهلها; كالمحدثين ، وحفاظ الحديث ، ووعاته . والله أعلم ، انتهى .
وأقول : هذا ما فهمه صاحب الترجمة .
والذي فهمه جمع جم من أهل العلم بالقرآن والحديث : أن مصداق الطائفة الطيبة من الأرض ، هم أهل الحديث; فإنهم قبلوا الهدى والعلم اللذين بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بهما ، وأنبتوا الكلأ والعشب الكثير ، الذي هو عبارة عن تدوين علوم السنة المطهرة وأصولها ، وتوفيق الأخبار الصحيحة وتطبيقها ، وضبط فقهها بعد تجريده; عن شوائب الآراء والأفكار ، وتلاحق البدع والمحدثات به; كما في حديث آخر مرفوع عن
إبراهيم بن عبد الرحمن العذري :
«يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين» ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في كتاب «المدخل» مرسلا .
فمن وجد هذه الأوصاف فيه ، فهو هذا القسم الأول ، ونفعه له ولغيره كثير .
ولا يوجد ذلك إلا في المحدثين المتبعين الموحدين الذين هم نخبة النخبة من هذه الأمة ، وصفوة الصفوة من عصابة أهل الجماعة والسنة .
ومصداق «الأجادب» سائر الفرق من أهل المذاهب المقلدين للأئمة المجتهدين ، أو الفرقة المجتهدة نفسها; فإنهم أمسكوا الماء في الجملة ، فشربوا ، وسقوا ، وزرعوا .
وإنما قلنا : «في الجملة» ; لأن أهل الأصول الحنفية مثلا ، قالوا : إنه يكفي للاجتهاد حفظ خمس مائة آية ، وكتاب من كتب السنن;
كأبي داود ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي ، ونحوها ، والتفريع الفقهي والتخريج القياسي أحق بإطلاق لفظ السقي والزرع من غيره .
[ ص: 65 ] ومصداق القيعان : طوائف أهل البدعة والمحدثات من سائر الفرق الإسلامية الماضية ، والحاضرة ، والآتية إلى قيام الساعة; فإنهم لم يرفعوا رؤوسهم بالهدى والعلم ، ولم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم إليهم ، بل قدموا بدعهم على السنن ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، ولا شيء أشق عليهم من تلاوة آية من كتاب ، أو ذكر حديث من صحيح ، عند المناظرة في المسائل والأحكام ، وإذا جررت لهم رواية من كتب الرأي ، وصحف الفقه وذكرت قولا لإمام ، برقت أساريرهم ، وهذا كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=45وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون [الزمر : 45] ، وما أجمع هذا الحديث للفوائد الكثيرة! وبالتأمل فيه تظهر الفوائد الغزيرة لمن رزقه الله فهما صحيحا ، وقلبا سليما ، وألقى السمع وهو شهيد .
وعن
أبي رافع ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=676526«لا ألفين أ حدكم» ; أي : لا أجدن «متكئا على أريكته» ; أي : سريره المزين بالحلل والأثواب ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به ، أو نهيت عنه ، وهي الأوامر والنواهي المدونة في الصحاح الستة وغيرها من دواوين الحديث ومسانيد الأخبار ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=676526فيقول : «لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله ، اتبعناه» رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد ،
nindex.php?page=showalam&ids=11998وأبو داود ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ،
nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي في «دلائل النبوة» .
قال في «المرقاة» : المعنى : لا يجوز الإعراض عن حديثه صلى الله عليه وسلم; لأن المعرض عنه معرض عن القرآن . انتهى .
وقال : في «الأشعة» : أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حال بعض أهل الجهل والفراغ والتكبر : أنه يتقاعد ويتكاسل عن العمل بالحديث في الأمر الذي لا يوجد حكمه في القرآن ، ويظن أن الأحكام تنحصر في القرآن فقط ، وهو جاهل من أن أكثر الأحكام في الأحاديث ، وليس في الكتاب .
[ ص: 66 ] وكما أن القرآن حجة ، فكذلك الحديث أيضا حجة ، وكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطي القرآن ، فكذلك أعطي أيضا الأحاديث ، فكلاهما وحي كما في حديث المقدام بن معد يكرب يرفعه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=675911«ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما حرم الله» الحديث ، رواه
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14274الدارمي نحوه ، وكذا
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه .
قال : والمماثلة هي في كونهما وحيا ، فكما أن القرآن وحي منزل من جناب القدس الإلهي ، فكذلك الأحاديث وحي من جانب الحق تعالى .
والشبعان : كناية عن بلادة العقل وسوء الفهم; لأن الشبع وشره الطعام سبب لذلك .
أو كناية عن الكبر والحماقة التي يوجبها التنعم والترفه ، انتهى .
قلت : قصر التمسك على الكتاب العزيز شعبة من الخروج ، ونوع من النفاق ، والخارجية هم القائلون في مقابلة
nindex.php?page=showalam&ids=8علي - عليه السلام - :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=57إن الحكم إلا لله ; أي : لا نقبل شيئا إلا ما في القرآن ، والمراد بهذا : إنكار الحديث ، والفرار عن اتباعه .
فمن لم يقبل السنة ، وقصر على القرآن ، ففيه شائبة ، بل شيمة الخارجية بلا تفاوت .
ولا يصح إيمان أحد حتى يتبع السنن كما يتبع القرآن ، كيف وقد جاءنا بهذه من جاء بالقرآن ، ولم نعلم بالقرآن إلا ببيان الرسول؟
فإذا لم يقبل أحد بيانه صلى الله عليه وسلم ، فإنه غير قابل للقرآن أيضا .
وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=143العرباض بن سارية - رضي الله عنه - : أنه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=674575«أيحسب أحدكم متكئا على أريكته يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن؟ ألا وإني والله! قد أمرت ووعظت ، ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن ، أو أكثر» ; أي : بل أكثر منه . الحديث رواه
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود .
[ ص: 67 ] وفي إسناده
أشعث بن شعبة المصيصي قد تكلم فيه ، ولكن يشهد له الحديث المتقدم وما ورد في معناه .
وهذا نص في أن
nindex.php?page=treesubj&link=28328الحديث مثل القرآن ، وحكم كلام الرسول هو حكم كلام الله ، وأن الاعتصام والعمل بهما جميعا واجب على الأمة ، لا يجوز لأحد أن يترك حديثا قناعة بالقرآن وكذلك القرآن قناعة بالحديث ، بل الذي يجب أن يأخذ بهما جميعا ، ولا يأخذ بغيرهما; فإن أصل الأصول الإسلامية هو هذان الأصلان ، لا ثالث لهما ، ولا رابع ، وإنما يستأنس بالإجماع وبالقياس للمتابعة والشهادة; لأنهما أصلان مستقلان [لا] يبنى عليهما شيء من أحكام الإسلام; فإنه لا قائل بذلك أحد ممن يعتد به من العلماء الأعلام ، والله أعلم .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=664814«من أكل طيبا ، وعمل في سنة ، وأمن الناس بوائقه ، دخل الجنة» .
«البائقة» : الداهية ، وهي المحنة العظيمة . والمراد هنا : الشرور .
والمعنى : من أكل الحلال ، واجتنب الحرام ، وعمل على وفق الحديث والقرآن ، والناس من شره في أمان ، فهو مستحق لدخول الجنان .
قال في الترجمة : أي : عمل به لكونه سنة ، وإن كان قليلا؟ .
nindex.php?page=hadith&LINKID=664814فقال رجل : يا رسول الله! إن هذا اليوم لكثير في الناس ، قال : «سيكون في قرون بعدي» ، المراد بالقرن : أهل العصر ، وكل عصر بعد من زمان النبي صلى الله عليه وسلم كان الصلحاء فيه أقل ممن قبلهم ، ولهذا قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=76718«خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم» ، والمراد بقوله : سيكون زمان العمل بالحديث من غرباء الإسلام ، وفيه إخبار بأن الخير لا ينقطع من أمته صلى الله عليه وسلم مطلقا ، وإن تفاوت بالقلة والكثرة ، وأنه يكون في آخر الزمان جماعات تقوم على طريقة التقوى والسنة المطهرة كما في الترجمة وعن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=664563«إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به ، هلك» ، وعوقب عليه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=664563«ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به ، نجا» رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي .
[ ص: 68 ] أي : نجا من العذاب ، وأثيب عليه .
وقال في الترجمة : وهذا في السنن ، ونوافل الخيرات ، وإلا ، لا وجه للترك في الفرائض والواجبات .
وقال في «المرقاة» : ما أمر به; أي : من المعروف والنهي عن المنكر; إذ لا يجوز صرف هذا القول إلى عموم المأمورات لأنه عرف أن مسلما لا يعذر فيما يهمل من الفرض الذي تعلق بخاصة نفسه .
والمراد «بهلك» : أن الدين اليوم عزيز ، والحق ظاهر ، وفي أنصاره كثرة ، فالترك يكون تقصيرا منكم ، فلا يعذر أحد منكم في التهاون .
ثم يأتي زمان يضعف فيه الإسلام ، من عمل منهم بعشر ما أمر به ، نجا; لانتفاء تلك المعاني المذكورة . انتهى .
والحاصل : أن قليل العمل في زمان كثير الفتن ، يوجب النجاة .
ثم بين صلى الله عليه وسلم في حديث آخر ، رواه
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس مرفوعا : «الأمر ثلاثة : 1- أمر بين رشده فاتبعه ، 2- وأمر بين غيه ، فاجتنبه ، 3- وأمر اختلف فيه ، فكله إلى الله - عز وجل -» رواه أحمد .
والمراد بالأمر البين رشده وغيه : ما علمت كونه حقا بالنص من الكتاب والسنة .
وما لم يثبت حكمه به ، فلا تقل فيه شيئا ، وفوض أمره إلى الله .
والمراد بالأمر المختلف : ما اشتبه وخفي حكمه ، أو ما اختلف الناس فيه من تلقاء أنفسهم .
قال السيد : والأولى : أن يفسر هذا الحديث بما ورد في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=1500أبي ثعلبة الخشني يرفعه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=930939«إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحرم حرمات فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء من غير نسيان - أي : بل من رحمة وإحسان - فلا تبحثوا عنها» ; أي : لا تفتشوا عنها . رواه
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني .
[ ص: 69 ] والحاصل : أن الأمر المشتبه ينبغي الاحتراز عنه استبراء للدين والعرض ، والمحكم منه واجب العمل .
ويزيده إيضاحا حديث
nindex.php?page=showalam&ids=114النعمان بن بشير مرفوعا :
nindex.php?page=hadith&LINKID=698494«الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات ، فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات ، وقع في الحرام» الحديث . وهو متفق عليه ، وسيأتي لهذا الحديث شرح مستوفى استقلالا - إن شاء الله تعالى - .
بِدْعَةُ التَّقْلِيدِ
وَنَظِيرُهُ الْيَوْمَ
nindex.php?page=treesubj&link=22311_28823بِدْعَةُ التَّقْلِيدِ; فَإِنَّهُ مُنْذُ أَحْدَثَهُ الْأَقْوَامُ ، نَزَعَ اللَّهُ مِنْهُمْ سُنَّةَ الِاتِّبَاعِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ ، ثُمَّ لَمْ يُعِدْهُ إِلَيْهِمْ إِلَى الْآنَ ، وَلَا عِبْرَةَ بِشِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الْقَبَائِلِ الشَّاذَّةِ الْفَاذَّةِ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لِلْأَكْثَرِ ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ أَكْثَرُ ، وَالْمُحَدِّثِينَ أَقَلُّ
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سَبَأٍ : 13] ، وَلَا تُعْجِبُكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ .
وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : «مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا» ; أَيْ يُرِيدُ السُّلُوكَ عَلَى الصِّرَاطِ السَّوِيِّ ، وَسَوَاءِ السَّبِيلِ ، وَالطَّرِيقِ الْقَوِيمِ ، وَالْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ ، فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ» ; أَيْ : يَقْتَدِي بِالْمِئَتَيْنِ عَنِ الدُّنْيَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ; فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ .
قَالَ فِي «الْأَشِعَّةِ» : هَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ فِي زَمَانِهِ لِلتَّابِعِينَ ، وَنَصَحَهُمْ .
وَأَرَادَ بِمَنْ مَاتَ : الصَّحَابَةَ ، وَبِالْحَيِّ : أَهْلَ زَمَنِهِ غَيْرِ الصَّحَابَةِ «أُولَئِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=28811أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَانُوا أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ» مِمَّنْ سِوَاهُمْ ، وَأَبَرَّهَا قُلُوبًا ، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا; أَيْ : أَكْثَرُهَا غَوْرًا مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ النَّافِعِ ، وَأَدَقَّهَا فَهْمًا فِي اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، «وَأَقَلَّهَا تَكْلِفَةً» ; أَيْ : تَصَنُّعًا وَرِيَاءً وَسُمْعَةً ، وَمُرَاعَاةً لِلرُّسُومِ وَالْعَادَاتِ الْمُتَعَارِفَةِ بَيْنَ النَّاسِ ، قَالَ تَعَالَى عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=86وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص : 86] .
«اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِمْ
[ ص: 59 ] وَأَكْمَلِيَّتِهِمْ; لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا اصْطَفَاهُمْ مِنْ بَيْنِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، وَجَعَلَهُمْ أَصْحَابَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عَلِمَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ ، وَأَخْيَارُ الْأُمَّةِ ، وَجَوَاهِرُ نُفُوسِهِمْ أَلْيَقُ وَأَحْرَى بِانْعِكَاسِ أَنْوَارِ الْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ .
كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=26وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا [الْفَتْحِ : 29] .
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي اصْطِفَاءِ الصَّحَابَةِ وَاخْتِيَارِهِمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِمَنْ يَسُبُّهُمْ وَيَشْتُمُهُمْ ، وَلَا يَعْرِفُ فَضْلَهُمْ; كَالرَّافِضَةِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَلْعُونَةِ .
«فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ ، وَاتَّبَعُوهُمْ عَلَى أَثَرِهِمْ» ; أَيْ : فِي الْعِلْمِ النَّافِعِ ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ ، وَمُحُوضَةِ الِاتِّبَاعِ السَّدِيدِ .
«وَتَمَسَّكُوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَسِيَرِهِمْ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ» ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَتْبَاعَ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ ، فِي كُلِّ نَقِيرٍ وَقِطْمِيرٍ ، وَحَقِيرٍ وَجَلِيلٍ ، وَوَضِيعٍ وَعَظِيمٍ . رَوَاهُ رَزِينٌ .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=28811إِيثَارِ آثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّمَسُّكِ بِأَخْلَاقِهِمُ الْمُرْضِيَةِ ، وَسِيَرِهِمُ السَّنِيَّةِ ، الْمَبْنِيَّةِ عَلَى صِرَافَةِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمَأْثُورَةِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِذَلِكَ بَعْدَ الِاعْتِصَامِ بِأَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ .
وَالتَّمَسُّكُ غَيْرُ التَّقْلِيدِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا ، وَكَذَلِكَ الِاقْتِدَاءُ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الْأَنْعَامِ : 90] .
وَلَمْ أَقِفْ عَلَى قَوْلٍ لِعَالَمٍ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ : أَنَّهُ فَسَّرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِالتَّقْلِيدِ ، بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ تَقْلِيدِ الرِّجَالِ; لِأَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنَ مَسْعُودٍ حَصَرَ التَّمَسُّكَ فِيهِمْ ، وَلَمْ يُرْشِدْ إِلَى التَّمَسُّكِ بِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْأُمَّةِ .
[ ص: 60 ] فَخَرَجَ بِذَلِكَ تَقْلِيدَاتُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْفُقَهَاءِ ، الْكَائِنِينَ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ .
وَلِهَذَا نَهَى الْأَرْبَعُ الْمَذْكُورُونَ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ ، وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ ، لَاسِيَّمَا أَعْظَمُهُمْ وَأَفْقَهُهُمْ .
كَيْفَ ، وَهُوَ يَقْتَدِي رِوَايَاتِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ ، فِي كَثِيرٍ مِنْ فَتَاوَاهُ ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ فِي هَذِهِ الْفَتْوَى .
وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : أَنَّهُ قَالَ : مَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ ، فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ ، وَمَا جَاءَ عَنِ التَّابِعِينَ ، زَاحَمْنَاهُمْ ، فَإِنَّهُمْ رِجَالٌ ، وَنَحْنُ رِجَالٌ .
وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ ذَاكَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى تَرْكِ التَّقْلِيدِ ، وَإِرْشَادٍ مِنْهُ لِغَيْرِهِ إِلَيْهِ ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِعَظَمَةِ إِمَامَتِهِ ، بَلْ هَذَا مِنْ عَلَامَاتِ إِمَامَةِ الْأَئِمَّةِ .
وَعْلَى هَذَا دَرَجَ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا قَاطِبَةً ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ أَحَدٌ ، إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ ، مِنْ أَفْرَاخِ الرَّأْيِ ، وَأَبْنَاءِ الْبِدَعِ ، وَأَصْحَابِ الْجَدَلِ وَأَرْبَابِ الْجَهْلِ ، وَمُقَلِّدَةِ دِينِهِمِ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ - عَافَانَا اللَّهُ مِنْهُ .
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=31سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=656097«إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» .
«الْفَرَطُ» - بِفَتْحَتَيْنِ - : الْفَارِطُ الْمُتَقَدِّمُ إِلَى الْمَنْزِلِ لِإِصْلَاحِ الْحِيَاضِ وَالدِّلَاءِ وَالْأَرْشِيَةِ; أَيْ : أَنَا سَابِقُكُمُ الْمُتَهَيِّئُ لَكُمْ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=656097«مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ» مِنْ شَرْبِ الْحَوْضِ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=656097«وَمَنْ شَرِبَ ، لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا ، لَيَرِدْنَ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَنِي» ، قِيلَ : لَعَلَّهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=691633أَصْحَابِي ، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ ، فَأَقُولُ : إِنَّهُمْ مِنِّي ، فَيُقَالُ : إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ ، فَأَقُولُ : سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي» ; أَيْ : بُعْدًا أَوْ هَلَاكًا . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=653191«إِنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِي يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ» ; أَيِ : الَّتِي يَذْهَبُونَ بِالْعُصَاةِ إِلَيْهَا ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=654259«فَأَقُولُ : أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي» عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْقِلَّةِ وَالتَّصْغِيرِ; لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ; «فَيَقُولُ» ;
[ ص: 61 ] أَيِ : اللَّهُ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=653191«إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ - أَيْ : عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُعْتَذِرًا وَاسْتِخْلَاصًا لِقَوْمِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=117وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ إِلَى قَوْلِهِ : nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَتَمَامُ الْآيَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=117مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْمَائِدَةِ : 117- 118] .
قَالَ فِي «أَشِعَّةِ اللَّمَعَاتِ» : قَالُوا : لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا خَوَاصَّ الْأَصْحَابِ; لِأَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَوْمٌ مِنْ جُفَاةِ الْعَرَبِ مِنْ أَصْحَابِ
«مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ» ، وَ
«أَسْوَدَ الْعَنْسِيِّ» ، أَوْ بَعْضِ مُؤَلَّفَةِ الْقُلُوبِ الَّذِينَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ بَصِيرَةٌ بِالدِّينِ ، وَلَا قُوَّةٌ فِي الْإِيمَانِ .
أَوِ الْمُرَادُ بِالرِّدَّةِ : خُرُوجٌ عَنْ حَدِّ الِاسْتِقَامَةِ فِي بَعْضِ الْحُقُوقِ ، وَإِصْلَاحُ السَّرِيرَةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ ، وَالرُّجُوعُ عَنْ مَرْتَبَةِ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ ، وَصِدْقِ النِّيَّةِ ، وَالتَّقْصِيرِ فِي بَعْضِ الْحُقُوقِ ، وَرِعَايَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ فِي التَّأَدُّبِ مَعَهُمْ ، لِلِابْتِلَاءِ بِالدُّنْيَا وَالْفِتَنِ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ :
«لَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ ، إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا وَآفَاتِهَا» ، كَذَا قَالُوا ، لَا رُجُوعُهُمْ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . انْتَهَى .
وَبِالْجُمْلَةِ : فَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=30175نَفْيِ عِلْمِ الْغَيْبِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِقَوْلِهِ : «لَا تَدْرِي» ، وَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْأَحْدَاثِ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فِي الْأُمَّةِ ، وَأَيُّ أُمَّةٍ هِيَ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ زَادَهُ إِيضَاحًا بِقَوْلِهِ : «أُصَيْحَابِي» .
وَحَيْثُ إِنَّ كُلَّ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَحْظَةٍ ، وَأَسْلَمَ ، يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ : «الصَّاحِبِ» ، صَحَّ أَنَّ بَعْضَ مَنْ كَانَ صَاحِبَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَحْدَثَ شَيْئًا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِعَدَمِ رُسُوخِهِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَهَذَا خَاصٌّ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُصَيْحَابِ .
وَمَنْ عَمَّمَ الْحَدِيثَ فِيهِمْ ، فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا; لِأَنَّ نَفْسَ الْحَدِيثِ يَرُدُّ عَلَيْهِ مُرَادَهُ هَذَا; كَالرَّافِضَةِ - قَاتَلَهُمُ اللَّهُ -; فَإِنَّهُمْ تَعَلَّقُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي إِثْبَاتِ رِدَّةِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ ، لَاسِيَّمَا الرَّاشِدِينَ مِنْهُمْ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ .
[ ص: 62 ] وَالْحَدِيثُ دَلَّ أَيْضًا عَلَى الدُّعَاءِ عَلَى أَهْلِ الْإِحْدَاثِ وَهُوَ ضِدُّ الِاتِّبَاعِ .
nindex.php?page=hadith&LINKID=667821وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ .
وَدَلَّ الِاسْتِشْهَادُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي بِقَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ الْمَذْكُورِ : عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31994عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ عَبْدًا ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ الْغَيْبَ .
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=656737«كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى» ; أَيِ : امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ مَا جِئْتُ بِهِ; كَأَهْلِ الْبِدَعِ ، مِنَ التَّقْلِيدِ وَغَيْرِهِ; فَإِنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَتَّبِعُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ، وَتَمَسَّكُوا فِي مُقَابَلَتِهِ بِالتَّفْرِيعَاتِ الْمُحْدَثَةِ ، وَالتَّخْرِيجَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ ، وَاتَّخَذُوهَا دِينًا .
nindex.php?page=hadith&LINKID=656737قِيلَ : وَمَنْ أَبَى؟ قَالَ : «مَنْ أَطَاعَنِي» بِاتِّبَاعِ سُنَّتِي وَالِاعْتِصَامِ بِكِتَابِ اللَّهِ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=656737«دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِي» وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=656737«فَقَدْ أَبَى» رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ .
قَالَ فِي التَّرْجَمَةِ : أَيْ : عَصَانِي بِإِيثَارِ الْبِدْعَةِ وَاتِّبَاعِ هَوَى النَّفْسِ ، فَقَدْ عَتَا ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ . انْتَهَى .
وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ دُخُولِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الْجَنَّةِ . وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْوَعِيدِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ .
وَبِهَذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الِابْتِدَاعَ عِصْيَانٌ لِلرَّسُولِ ، كَمَا أَنَّ الِاتِّبَاعَ إِطَاعَةٌ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النِّسَاءِ : 59] .
وَفِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=9أَنَسٍ مَرْفُوعًا فِي قِصَّةِ ثَلَاثَةِ رَهْطٍ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=654675«أَمَا وَاللَّهِ! إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي ، فَلَيْسَ مِنِّي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
أَيْ : مَنْ أَعْرَضَ عَنْ سُنَّتِي اسْتِهَانَةً ، وَزُهْدًا ، فَلَيْسَ مِنْ أَشْيَاعِي ، وَكُلُّ مَنْ لَا يَتَّبِعُ السُّنَّةَ فَإِنَّهُ مُسْتَهِينٌ بِهَا زَاهِدٌ فِيهَا .
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=110أَبِي مُوسَى ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=650077«مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا ، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا [ ص: 63 ] النَّاسَ ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا ، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ ، لَا تُمْسِكُ مَاءً ، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً ، فَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فِي «أَجَادِبَ» رِوَايَاتٌ ، أَصَحُّهَا : أَنَّهَا جَمْعُ «جَدَبٍ» ، وَهُوَ الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ الْمَاسِكَةُ لِلْمَاءِ ، الَّتِي لَا تُنْبِتُ الْكَلَأَ .
وَ «الْكَلَأُ» - بِالْهَمْزِ [وَالْكَافِ] وَاللَّامِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ مَقْصُورًا - هُوَ عَلَى زِنَةِ جَبَلٍ يَقَعُ عَلَى الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ . وَ «الْعُشْبُ» - بِالضَّمِّ - ، وَ «الْكَلَأُ» - مَقْصُورًا - : مُخْتَصَّانِ بِالرَّطْبِ . وَ «الْقِيعَانُ» : جَمْعُ «قَاعٍ» ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ .
ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّاسَ قِسْمَانِ : مُنْتَفِعٌ بِدِينِهِ ، وَغَيْرُ مُنْتَفِعٍ بِهِ . وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُنْتَفِعَةٌ بِالْمَاءِ ، وَغَيْرُ مُنْتَفِعَةٍ بِهِ . وَالْمُنْتَفِعَةُ نَوْعَانِ : مُنْبِتٌ ، وَغَيْرُ مُنْبِتٍ . وَكَذَلِكَ الْمُنْتَفِعُ بِالدِّينِ عَلَى صِنْفَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : عَالِمٌ عَابِدٌ ، مُتَفَقِّهٌ ، مُتَفَهِّمٌ ، مُعَلِّمٌ كَالطَّائِفَةِ الطَّيِّبَةِ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي قَبِلَتِ الْمَاءَ ، وَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ ، وَنَفَعَتْ غَيْرَهَا .
وَالثَّانِي : عَالِمٌ مُعَلِّمٌ غَيْرُ مُتَعَبِّدٍ بِالنَّوَافِلِ ، لَمْ يَتَفَقَّهْ فِيمَا جَمَعَ مِنَ الْعِلْمِ ، كَالْأَرْضِ الْجَدْبَةِ الَّتِي أَمْسَكَتِ الْمَاءَ ، وَانْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ .
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الْعِلْمِ قَطْعًا ، أَوِ الْتَفَتَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ مُطْلَقًا ، وَلَمْ يُعَلِّمْ أَحَدًا ، سَوَاءٌ دَخَلَ فِي الدِّينِ ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ ، وَبَقِيَ كَافِرًا ، فَهُوَ كَالْقَاعِ لَمْ يُمْسِكْ مَاءً ، وَلَمْ يُنْبِتْ كَلَأً . هَذَا خُلَاصَةُ مَا ذَكَرَهُ شُرَّاحُ «صَحِيحِ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ» .
قَالَ فِي التَّرْجَمَةِ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ : عِبَارَةُ عَمَّنْ تَعَلَّمَ وَاجْتَهَدَ ، وَاسْتَنْبَطَ الْمَعَانِيَ وَالنِّكَاتَ وَالْأَسْرَارَ ، وَشَرَحَ وَبَيَّنَ; كَالْفُقَهَاءِ
[ ص: 64 ] الْمُجْتَهِدِينَ ، وَالْعُلَمَاءِ الْمُتْقِنِينَ الْمُحَقِّقِينَ; فَإِنَّهُ كَالْكَلَأِ النَّابِتِ مِنَ الْأَرْضِ وَثَمَرَاتِهَا وَنَتَائِجِهَا .
وَالثَّانِي : عِبَارَةُ عَمَّنْ تَعَلَّمَ ، وَجَمَعَ الْعِلْمَ ، وَوَعَاهُ ، وَحَفِظَهُ ، وَأَدَّى الْأَمَانَاتِ بِعَيْنِهَا وَجِنْسِهَا إِلَى أَهْلِهَا; كَالْمُحَدِّثِينَ ، وَحُفَّاظِ الْحَدِيثِ ، وَوُعَاتِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، انْتَهَى .
وَأَقُولُ : هَذَا مَا فَهِمَهُ صَاحِبُ التَّرْجَمَةِ .
وَالَّذِي فَهِمَهُ جَمْعٌ جَمٌّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ : أَنَّ مِصْدَاقَ الطَّائِفَةِ الطَّيِّبَةِ مِنَ الْأَرْضِ ، هُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ; فَإِنَّهُمْ قَبِلُوا الْهُدَى وَالْعِلْمَ اللَّذَيْنِ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا ، وَأَنْبَتُوا الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ، الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَدْوِينِ عُلُومِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَأُصُولِهَا ، وَتَوْفِيقِ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَتَطْبِيقِهَا ، وَضَبْطِ فِقْهِهَا بَعْدَ تَجْرِيدِهِ; عَنْ شَوَائِبِ الْآرَاءِ وَالْأَفْكَارِ ، وَتَلَاحُقِ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ بِهِ; كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ مَرْفُوعٍ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ :
«يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ» وَرَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13933الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ «الْمَدْخَلِ» مُرْسَلًا .
فَمَنْ وَجَدَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ فِيهِ ، فَهُوَ هَذَا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ، وَنَفْعُهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَثِيرٌ .
وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْمُحَدِّثِينَ الْمُتَّبِعِينَ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ هُمْ نُخْبَةُ النُّخْبَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَصَفْوَةُ الصَّفْوَةِ مِنْ عِصَابَةِ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ وَالسُّنَّةِ .
وَمِصْدَاقُ «الْأَجَادِبِ» سَائِرُ الْفِرَقِ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمُقَلِّدِينَ لِلْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ ، أَوِ الْفِرْقَةُ الْمُجْتَهِدَةُ نَفْسُهَا; فَإِنَّهُمْ أَمْسَكُوا الْمَاءَ فِي الْجُمْلَةِ ، فَشَرِبُوا ، وَسَقَوْا ، وَزَرَعُوا .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : «فِي الْجُمْلَةِ» ; لِأَنَّ أَهْلَ الْأُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ مَثَلًا ، قَالُوا : إِنَّهُ يَكْفِي لِلِاجْتِهَادِ حِفْظُ خَمْسِ مِائَةِ آيَةٍ ، وَكِتَابٍ مِنْ كُتُبِ السُّنَنِ;
كَأَبِي دَاوُدَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948وَالتِّرْمِذِيِّ ، وَنَحْوِهَا ، وَالتَّفْرِيعُ الْفِقْهِيُّ وَالتَّخْرِيجُ الْقِيَاسِيُّ أَحَقُّ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ السَّقْيِ وَالزَّرْعِ مِنْ غَيْرِهِ .
[ ص: 65 ] وَمِصْدَاقُ الْقِيعَانِ : طَوَائِفُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْمُحْدَثَاتِ مِنْ سَائِرِ الْفِرَقِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمَاضِيَةِ ، وَالْحَاضِرَةِ ، وَالْآتِيَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ; فَإِنَّهُمْ لَمْ يَرْفَعُوا رُؤُوسَهُمْ بِالْهُدَى وَالْعِلْمِ ، وَلَمْ يَقْبَلُوا هُدَى اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ ، بَلْ قَدَّمُوا بِدَعَهُمْ عَلَى السُّنَنِ ، وَنَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، وَلَا شَيْءَ أَشَقُّ عَلَيْهِمْ مِنْ تِلَاوَةِ آيَةٍ مِنْ كِتَابٍ ، أَوْ ذِكْرِ حَدِيثٍ مِنْ صَحِيحٍ ، عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ فِي الْمَسَائِلِ وَالْأَحْكَامِ ، وَإِذَا جَرَرْتَ لَهُمْ رِوَايَةً مِنْ كُتُبِ الرَّأْيِ ، وَصُحُفِ الْفِقْهِ وَذَكَرْتُ قَوْلًا لِإِمَامٍ ، بَرَقَتْ أَسَارِيرُهُمْ ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=45وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزُّمَرِ : 45] ، وَمَا أَجْمَعَ هَذَا الْحَدِيثَ لِلْفَوَائِدِ الْكَثِيرَةِ! وَبِالتَّأَمُّلِ فِيهِ تَظْهَرُ الْفَوَائِدُ الْغَزِيرَةُ لِمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ فَهْمًا صَحِيحًا ، وَقَلْبًا سَلِيمًا ، وَأَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ .
وَعَنْ
أَبِي رَافِعٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=676526«لَا أُلْفِيَنَّ أَ حَدَكُمْ» ; أَيْ : لَا أَجِدَنَّ «مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ» ; أَيْ : سَرِيرِهِ الْمُزَيَّنِ بِالْحُلَلِ وَالْأَثْوَابِ ، يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أُمِرْتُ بِهِ ، أَوْ نُهِيتُ عَنْهُ ، وَهِيَ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي الْمُدَوَّنَةُ فِي الصِّحَاحِ السِّتَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ وَمَسَانِيدِ الْأَخْبَارِ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=676526فَيَقُولُ : «لَا أَدْرِي ، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ، اتَّبَعْنَاهُ» رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدُ ،
nindex.php?page=showalam&ids=11998وَأَبُو دَاوُدَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948وَالتِّرْمِذِيُّ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وَابْنُ مَاجَهْ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13933وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ» .
قَالَ فِي «الْمِرْقَاةِ» : الْمَعْنَى : لَا يَجُوزُ الْإِعْرَاضُ عَنْ حَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّ الْمِعْرِضَ عَنْهُ مُعْرِضٌ عَنِ الْقُرْآنِ . انْتَهَى .
وَقَالَ : فِي «الْأَشِعَّةِ» : أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِ بَعْضِ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْفَرَاغِ وَالتَّكَبُّرِ : أَنَّهُ يَتَقَاعَدُ وَيَتَكَاسَلُ عَنِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لَا يُوجَدُ حُكْمُهُ فِي الْقُرْآنِ ، وَيَظُنُّ أَنَّ الْأَحْكَامَ تَنْحَصِرُ فِي الْقُرْآنِ فَقَطْ ، وَهُوَ جَاهِلٌ مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ فِي الْأَحَادِيثِ ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ .
[ ص: 66 ] وَكَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ حَجَّةٌ ، فَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ أَيْضًا حِجَّةٌ ، وَكَمَا أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيَ الْقُرْآنَ ، فَكَذَلِكَ أُعْطِي أَيْضًا الْأَحَادِيثَ ، فَكِلَاهُمَا وَحْيٌ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ يَرْفَعُهُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=675911«أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ» الْحَدِيثَ ، رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11998أَبُو دَاوُدَ ، وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=14274الدَّارِمِيُّ نَحْوَهُ ، وَكَذَا
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ : وَالْمُمَاثَلَةُ هِيَ فِي كَوْنِهِمَا وَحْيًا ، فَكَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ وَحَيٌّ مُنَزَّلٌ مِنْ جَنَابِ الْقُدْسِ الْإِلَهِيِّ ، فَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَحْيٌ مِنْ جَانِبِ الْحَقِّ تَعَالَى .
وَالشَّبْعَانُ : كِنَايَةٌ عَنْ بَلَادَةِ الْعَقْلِ وَسُوءِ الْفَهْمِ; لِأَنَّ الشِّبَعَ وَشَرَهَ الطَّعَامِ سَبَبٌ لِذَلِكَ .
أَوْ كِنَايَةٌ عَنِ الْكِبْرِ وَالْحَمَاقَةِ الَّتِي يُوجِبُهَا التَّنَعُّمُ وَالتَّرَفُّهُ ، انْتَهَى .
قُلْتُ : قَصْرُ التَّمَسُّكِ عَلَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ شُعْبَةٌ مِنَ الْخُرُوجِ ، وَنَوْعٌ مِنَ النِّفَاقِ ، وَالْخَارِجِيَّةُ هُمُ الْقَائِلُونَ فِي مُقَابَلَةِ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=57إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ; أَيْ : لَا نَقْبَلُ شَيْئًا إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا : إِنْكَارُ الْحَدِيثِ ، وَالْفِرَارُ عَنِ اتِّبَاعِهِ .
فَمَنْ لَمْ يَقْبَلِ السُّنَّةَ ، وَقَصَرَ عَلَى الْقُرْآنِ ، فَفِيهِ شَائِبَةٌ ، بَلْ شِيمَةُ الْخَارِجِيَّةِ بِلَا تَفَاوُتٍ .
وَلَا يَصِحُّ إِيمَانُ أَحَدٍ حَتَّى يَتْبَعَ السُّنَنَ كَمَا يَتْبَعُ الْقُرْآنَ ، كَيْفَ وَقَدْ جَاءَنَا بِهَذِهِ مَنْ جَاءَ بِالْقُرْآنِ ، وَلَمْ نَعْلَمْ بِالْقُرْآنِ إِلَّا بِبَيَانِ الرَّسُولِ؟
فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ بَيَانَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْقُرْآنِ أَيْضًا .
وَقَدْ رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=143الْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : أَنَّهُ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=674575«أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ؟ أَلَا وَإِنِّي وَاللَّهِ! قَدْ أُمِرْتُ وَوَعَظْتُ ، وَنَهَيْتُ عَنْ أَشْيَاءَ إِنَّهَا لَمِثْلِ الْقُرْآنِ ، أَوْ أَكْثَرَ» ; أَيْ : بَلْ أَكْثَرَ مِنْهُ . الْحَدِيثَ رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11998أَبُو دَاوُدَ .
[ ص: 67 ] وَفِي إِسْنَادِهِ
أَشْعَثُ بْنُ شُعْبَةَ الْمِصِّيصِيُّ قَدْ تُكَلِّمُ فِيهِ ، وَلَكِنْ يَشْهَدُ لَهُ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ .
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28328الْحَدِيثَ مِثْلُ الْقُرْآنِ ، وَحُكْمَ كَلَامِ الرَّسُولِ هُوَ حُكْمُ كَلَامِ اللَّهِ ، وَأَنَّ الِاعْتِصَامَ وَالْعَمَلَ بِهِمَا جَمِيعًا وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ ، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ حَدِيثًا قَنَاعَةً بِالْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ قَنَاعَةً بِالْحَدِيثِ ، بَلِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِمَا جَمِيعًا ، وَلَا يَأْخُذَ بِغَيْرِهِمَا; فَإِنَّ أَصْلَ الْأُصُولِ الْإِسْلَامِيَّةِ هُوَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ ، لَا ثَالِثَ لَهُمَا ، وَلَا رَابِعَ ، وَإِنَّمَا يَسْتَأْنِسُ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْقِيَاسِ لِلْمُتَابَعَةِ وَالشَّهَادَةِ; لِأَنَّهُمَا أَصْلَانِ مُسْتَقِلَّانِ [لَا] يُبْنَى عَلَيْهِمَا شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ; فَإِنَّهُ لَا قَائِلَ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=44أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=664814«مَنْ أَكَلَ طَيِّبًا ، وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ ، وَأَمِنَ النَّاسُ بَوَائِقَهُ ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» .
«الْبَائِقَةُ» : الدَّاهِيَةُ ، وَهِيَ الْمِحْنَةُ الْعَظِيمَةُ . وَالْمُرَادُ هُنَا : الشُّرُورُ .
وَالْمَعْنَى : مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ ، وَاجْتَنَبَ الْحَرَامَ ، وَعَمِلَ عَلَى وَفْقِ الْحَدِيثِ وَالْقُرْآنِ ، وَالنَّاسُ مِنْ شَرِّهِ فِي أَمَانٍ ، فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِدُخُولِ الْجِنَانِ .
قَالَ فِي التَّرْجَمَةِ : أَيْ : عَمِلَ بِهِ لِكَوْنِهِ سُنَّةً ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا؟ .
nindex.php?page=hadith&LINKID=664814فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَكَثِيرٌ فِي النَّاسِ ، قَالَ : «سَيَكُونُ فِي قُرُونٍ بَعْدِي» ، الْمُرَادُ بِالْقَرْنِ : أَهْلُ الْعَصْرِ ، وَكُلُّ عَصْرٍ بَعْدُ مِنْ زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الصُّلَحَاءُ فِيهِ أَقَلَّ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ ، وَلِهَذَا قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=76718«خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : سَيَكُونُ زَمَانُ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ مِنْ غُرَبَاءِ الْإِسْلَامِ ، وَفِيهِ إِخْبَارٌ بِأَنَّ الْخَيْرَ لَا يَنْقَطِعُ مِنْ أُمَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطْلَقًا ، وَإِنْ تَفَاوَتَ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ جَمَاعَاتٌ تَقُومُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّقْوَى وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ كَمَا فِي التَّرْجَمَةِ وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=664563«إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ مَنْ تَرَكَ مِنْكُمْ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ ، هَلَكَ» ، وَعُوقِبَ عَلَيْهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=664563«ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ مَنْ عَمَلٍ مِنْهُمْ بِعُشْرِ مَا أُمِرَ بِهِ ، نَجَا» رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13948التِّرْمِذِيُّ .
[ ص: 68 ] أَيْ : نَجَا مِنَ الْعَذَابِ ، وَأُثِيبَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ فِي التَّرْجَمَةِ : وَهَذَا فِي السُّنَنِ ، وَنَوَافِلِ الْخَيْرَاتِ ، وَإِلَّا ، لَا وَجْهَ لِلتَّرْكِ فِي الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ .
وَقَالَ فِي «الْمِرْقَاةِ» : مَا أُمِرَ بِهِ; أَيْ : مِنَ الْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ; إِذْ لَا يَجُوزُ صَرْفُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى عُمُومِ الْمَأْمُورَاتِ لِأَنَّهُ عُرِفَ أَنَّ مُسْلِمًا لَا يُعْذَرُ فِيمَا يُهْمِلُ مِنَ الْفَرْضِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ .
وَالْمُرَادُ «بِهَلَكَ» : أَنَّ الدِّينَ الْيَوْمَ عَزِيزٌ ، وَالْحَقَّ ظَاهِرٌ ، وَفِي أَنْصَارِهِ كَثْرَةٌ ، فَالتَّرْكُ يَكُونُ تَقْصِيرًا مِنْكُمْ ، فَلَا يُعْذَرُ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي التَّهَاوُنِ .
ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ يَضْعُفُ فِيهِ الْإِسْلَامُ ، مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِعُشْرِ مَا أُمِرَ بِهِ ، نَجَا; لِانْتِفَاءِ تِلْكَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ . انْتَهَى .
وَالْحَاصِلُ : أَنَّ قَلِيلَ الْعَمَلِ فِي زَمَانٍ كَثِيرِ الْفِتَنِ ، يُوجِبُ النَّجَاةَ .
ثُمَّ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ ، رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا : «الْأَمْرُ ثَلَاثَةٌ : 1- أَمْرٌ بَيِّنٌ رُشْدُهُ فَاتَّبِعْهُ ، 2- وَأَمْرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ ، فَاجْتَنِبْهُ ، 3- وَأَمْرٌ اخْتُلِفَ فِيهِ ، فَكِلْهُ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -» رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْبَيِّنِ رُشْدُهُ وَغَيُّهُ : مَا عَلِمْتَ كَوْنَهُ حَقًّا بِالنَّصِّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَمَا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ بِهِ ، فَلَا تَقُلْ فِيهِ شَيْئًا ، وَفَوِّضْ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ .
وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْمُخْتَلَفِ : مَا اشْتَبَهَ وَخَفِيَ حُكْمُهُ ، أَوْ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ .
قَالَ السَّيِّدُ : وَالْأَوْلَى : أَنْ يُفَسَّرَ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=1500أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ يَرْفَعُهُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=930939«إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا ، وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا ، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا ، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ - أَيْ : بَلْ مِنْ رَحْمَةٍ وَإِحْسَانٍ - فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» ; أَيْ : لَا تُفَتِّشُوا عَنْهَا . رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدَّارَقُطْنِيُّ .
[ ص: 69 ] وَالْحَاصِلُ : أَنَّ الْأَمْرَ الْمُشْتَبِهَ يَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ عَنْهُ اسْتِبْرَاءً لِلدِّينِ وَالْعِرْضِ ، وَالْمُحْكَمُ مِنْهُ وَاجِبُ الْعَمَلِ .
وَيَزِيدُهُ إِيضَاحًا حَدِيثُ
nindex.php?page=showalam&ids=114النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا :
nindex.php?page=hadith&LINKID=698494«الْحَلَالُ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ ، فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ ، وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» الْحَدِيثَ . وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْحَدِيثِ شَرْحٌ مُسْتَوْفًى اسْتِقْلَالًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - .