الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذم المخلفين بما منه -أي من الذم- أنهم هالكون بعد أن قدم أنه لعنهم، وكان قد وعد [ ص: 307 ] سبحانه أهل الحديبية فتح خيبر جبرا لهم بما منعهم من الاستيلاء على مكة المشرفة لما له في ذلك من الحكم البالغة الدقيقة، وختم بأنه نافذ الأمر، و [كان] ذلك مستلزما لإحاطة العلم، دل على كلا الأمرين بقوله استئنافا، جوابا لمن كأنه قال: هل يغفر للمخلفين حتى يكونوا كأنهم ما تخلفوا؟ سيقول أي: بوعد لا خلف فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا مطمع لأحد في أن يظفر منه بشيء من خلاف لأمر الله، أسقط ما عبر به في ذكرهم أولا من خطابه وقال: المخلفون أي: لمن يطمعون فيه من الصحابة أن يسعى في تمكينهم من المسير في جيشه صلى الله عليه وسلم لخفاء الحكم عليه ونحو ذلك، ولم يقيدهم بالأعراب ليعم كل من كان يتخلف من غيرهم إذا انطلقتم بتمكين الله لكم إلى مغانم

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أفهم اللفظ الأخذ، والتعبير بصيغة منتهى الجموع كثرتها، صرح بالأول رفعا للمجاز فقال: لتأخذوها أي: من خيبر ذرونا أي: على أي حالة شئتم من الأحوال الدنية نتبعكم ولما كان يلزم من تمكينهم من ذلك إخلاف وعد الله بأنها تخص أهل الحديبية، وأنه طرد المنافقين وخيب قصدهم، علل تعالى قولهم بقوله: يريدون أي: بذهابكم معكم أن يبدلوا كلام الله أي: المحيط بكل شيء قدرة [ ص: 308 ] وعلما في الإخبار بلعنهم وإبارتهم، وأن فتح خيبر مختص بأهل الحديبية، لا يشركهم فيه إلا من وافقهم في النية والهجرة، ليتوصلوا بذلك إلى تشكيك أهل الإسلام فيه، والمراد أن فعلهم فعل من يريد ذلك، ولا يبعد أن يكونوا صنفين: منهم من يريد ذلك، ومنهم من لم يرده ولكن فعل فعل من يريده.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان السامع جديرا بأن يسأل عما يقال لهم، قال مخاطبا لأصدق الخلق عليه الصلاة والسلام: قل أي: يا حبيب لهم إذا بلغك كلامهم أنت بنفسك، فإن غيرك لا يقوم مقامك في هذا الأمر المهم، قولا مؤكدا: لن تتبعونا وإن اجتهدتم في ذلك، وساقه مساق النفي وإن كان المراد به النهي؛ لأنه مع كونه آكد يكون علما من أعلام النبوة، وهو أزجر وأدل على الاستهانة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أذن هذا التأكيد أنه من عند من [لا] يخالف أصلا في مراده، بينه تعالى بقوله: كذلكم أي: مثل هذا القول البديع الشأن العلي الرتبة قال الله أي: الذي لا يكون إلا ما يريد وليس هو كالملوك الذين لا قدرة لهم على الغفران لمن شاؤوا والعقاب لمن شاؤوا من قبل هذا الوقت، وهو الذي لا يمكن الخلف في قوله، فإنه قضى أن لا يحضر "خيبر" المرادة بهذه الغنائم إلا من حضر الحديبية، [ ص: 309 ] وأمر بذلك فكان ما قال بعد اجتهاد بعض المخلفين في إخلافه فإنهم غيرهم الطمع بعد سماعهم قول الله هذا، فطلبوا أن يخرجوا معه صلى الله عليه وسلم فمنعوا فلم يحضرها غيرهم أحد، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست، فأقام إلى أثناء محرم سنة سبع، وخرج بأهل الحديبية إلى خيبر ففتحها الله عليه، وأخذ جميع أموالها من المنقولات والعقارات، وأتى إليه صلى الله عليه وسلم وهو بها بعد فتحها ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وبعض من معهم من مهاجرة الحبشة، فأشركهم النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل الحديبية لأنهم لم يكونوا مخلفين بل كانوا متخلفين لعذر عدم الإدراك.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانوا منافقين لا يعتقدون شيئا من هذه الأقوال، بل يظنون أنها حيل على التوصل إلى المرادات الدنيوية، سبب عن قولهم له ذلك تنبيها على جلافتهم وفساد ظنونهم: فسيقولون ليس الأمر كما ذكر مما ادعى أنه قول الله بل إنما ذلكم لأنكم تحسدوننا فلا تريدون أن يصل إلينا من مال الغنائم شيء. ولما كان التقدير: وليس الأمر كما زعموا، رتب عليه قوله: بل كانوا أي: جبلة وطبعا لا يفقهون أي: لا يفهمون فهم الحاذق الماهر إلا قليلا في أمر دنياهم، ومن ذلك إقرارهم بالإيمان لأجلها، وأما أمور الآخرة فلا يفهمون منها شيئا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية