الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما هددهم سبحانه بالأمور الأخروية، وستر الأمر بالتذكير بها لكونها مستورة وهم بها يكذبون في قوله "ويوم"، وختم بالعذاب على الاستكبار المذموم والفسق، عطف عليه تهديدهم بالأمور المحسوسة لأنهم متقيدون بها مصرحا بالأمر بالذكر فقال تعالى: واذكر أي: لهؤلاء الذين لا يتعظون بمحط الحكمة الذي لا يخفى على [ذي] لب، وهو البعث. ولما كان أقعد ما يهددون به في هذه السورة وأنسبه لمقصودها عاد لكونهم أقوى الناس أبدانا وأعتاهم رقابا وأشدهم قلوبا وأوسعهم ملكا وأعظمهم استكبارا بحيث كانوا يقولون من أشد منا قوة وبنوا البنيان الذي يفني الدهر ولا يفنى، فلا يعمله إلا من نسي الموت أو رجا الخلود واصطنعوا جنة على وجه الأرض لأن ملكهم [ ص: 162 ] عمها كلها مع قرب بلادهم لكونها في بلاد العرب من قريش ومعرفتهم بأخبارهم ورؤيتهم لديارهم وكون عذابهم نشأ من بلدهم بدعاء من دعا منهم، ذكر أمرهم على وجه دل على مقصود السورة، وعبر بالأخوة تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم لأن فظيعة القوم لمن هو منهم ويعلمون مناقبه ومفاخره أنكأ فقال: أخا عاد وهو أخو هود عليه الصلاة والسلام الذي كان بين قوم لا يعشرهم قومك في قوة ولا مكنة، وصدعهم مع ذلك بمر الحق وبادأهم بأمر الله، لم يخف عاقبتهم ونجيته منهم، فهو لك قدوة وفيه أسوة، ولقومك في قصدهم إياك بالأذى من أمره موعظة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكره عليه الصلاة والسلام لمثل هذه المقاصد الجليلة، أبدل منه قصته زيادة في البيان، فقال مبينا أن الإنذار هو المقصد الأعظم من الرسالة: إذ أي: حين أنذر قومه أي: الذين لهم قوة زائدة على القيام فيما يحاولونه بالأحقاف قال الأصبهاني : قال ابن عباس : واد بين عمان ومهرة، قال: وقال مقاتل : كانت منازل [ ص: 163 ] عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له مهرة، إليه ينسب الإبل المهرية، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إرم. وقال قتادة : كانوا مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشجر، والأحقاف جمع حقف بالكسر، وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء، وقال ابن زيد : هو ما استطال من الرمل كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلا، وقال في القاموس: وهو الرمل العظيم المستدير، وأصل الرمل، واحقوقف الرمل والظهر والهلال: طال واعوج. ومن الأمر الجلي أن هذه الهيئة لا تكون في بلاد الريح بها غالبة شديدة؛ لأنه لو كان ذلك نسف الجبل نسفا بخلاف بلاد الجبال كمكة المشرفة، فإن الريح تكون بها غاية في الشدة لأنها إما أن تصك الجبل فتنعكس راجعة بقوة شديدة، أو يكون هناك جبال فتراد بينها أو تنضغط فتخرج مما تجد من الفروج على هيئة مزعجة فينبغي أن يكون أهل الجبال أشد من ذلك حذرا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر النذير والمنذرين ومكانهم لما ذكر من المقاصد، ذكر [ ص: 164 ] أنهم أعرضوا عنه ولم يكن بدعا من الرسل ولا كان قومه جاهلين بأحوالهم، فاستحقوا العذاب تحذيرا من مثل حالهم، فقال: وقد أي: والحال أنه قد خلت أي: مرت ومضت وماتت النذر أي: الرسل الكثيرون الذين محط أمرهم الإنذار.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما لم يكن إرسالهم بالفعل مستغرقا لجميع الأزمنة، أدخل الجار فقال: من بين يديه أي: قبله كنوح وشيث وآدم عليه الصلاة والسلام فما كان بدعا منها ومن خلفه أي: الذين أتوا من بعده فما كنت أنت بدعا منهم. ولما أشار إلى كثرة الرسل، ذكر وحدتهم في أصل الدعاء، فقال مفسرا للإنذار معبرا بالنهي: ألا تعبدوا أي: أيها العباد المنذرون، بوجه من الوجوه، شيئا من الأشياء إلا الله الملك الذي لا ملك غيره ولا خالق سواه ولا منعم إلا هو، فإني أراكم تشركون به من لم يشركه في شيء من تدبيركم، والملك لا يقر على مثل هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أمرهم ونهاهم، علل ذلك فقال محذرا لهم من العذاب مؤكدا لما لهم من الإنكار لاعتمادهم على قوة أبدانهم وعظيم شأنهم: إني أخاف عليكم لكونكم قومي وأعز الناس علي عذاب يوم عظيم لا يدع جهة إلا ملأها عذابه، إن أصررتم على ما أنتم فيه من الشرك.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية