الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 256 ]

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( 6 ) )

وتأويل "سواء " : معتدل . مأخوذ من التساوي ، كقولك : "متساو هذان الأمران عندي " ، و "هما عندي سواء " ، أي هما متعادلان عندي ، ومنه قول الله جل ثناؤه : ( فانبذ إليهم على سواء ) سورة الأنفال : 58 ، يعني : أعلمهم وآذنهم بالحرب ، حتى يستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منهم للفريق الآخر . فكذلك قوله " سواء عليهم " : معتدل عندهم أي الأمرين كان منك إليهم ، الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون ، وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم . ومن ذلك قول عبد الله بن قيس الرقيات :


تغذ بي الشهباء نحو ابن جعفر سواء عليها ليلها ونهارها



يعني بذلك : معتدل عندها في السير الليل والنهار ، لأنه لا فتور فيه . ومنه قول الآخر


وليل يقول المرء من ظلماته     سواء صحيحات العيون وعورها



لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرا ضعيفا من ظلمته .

وأما قوله : ( أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، فإنه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام وهو خبر ; لأنه وقع موقع "أي " كما تقول : "لا نبالي أقمت أم [ ص: 257 ] قعدت " ، وأنت مخبر لا مستفهم ، لوقوع ذلك موقع "أي " . وذلك أن معناه إذا قلت ذلك : ما نبالي أي هذين كان منك . فكذلك ذلك في قوله : " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " ، لما كان معنى الكلام : سواء عليهم أي هذين كان منك إليهم - حسن في موضعه مع سواء : "أفعلت أم لم تفعل " .

وكان بعض نحويي البصرة يزعم أن حرف الاستفهام إنما دخل مع "سواء " ، وليس باستفهام ، لأن المستفهم إذا استفهم غيره فقال : "أزيد عندك أم عمرو ؟ " مستثبت صاحبه أيهما عنده . فليس أحدهما أحق بالاستفهام من الآخر . فلما كان قوله : " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " بمعنى التسوية ، أشبه ذلك الاستفهام ، إذ أشبهه في التسوية . وقد بينا الصواب في ذلك .

فتأويل الكلام إذا : معتدل يا محمد - على هؤلاء الذين جحدوا نبوتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها ، وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي ، وقد أخذت عليهم العهد والميثاق أن لا يكتموا ذلك ، وأن يبينوه للناس ، ويخبروهم أنهم يجدون صفتك في كتبهم - أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، فإنهم لا يؤمنون ، ولا يرجعون إلى الحق ، ولا يصدقون بك وبما جئتهم به . كما : -

299 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العلم من ذكر ، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك ، فقد كفروا بما جاءك ، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك ، فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك ؟ .

التالي السابق


الخدمات العلمية