الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن عجز عن الرمي بنفسه لمرض مأيوس منه أو غير مأيوس ، جاز أن يستنيب من يرمي عنه ، لأن وقته مضيق ، وربما مات قبل أن يرمي بخلاف الحج فإنه على التراخي ، ولا يجوز لغير المأيوس أن يستنيب لأنه قد يبرأ فيؤديه بنفسه ، والأفضل أن يضع كل حصاة في يد النائب ويكبر ، ويرمي النائب ، فإن رمى عنه النائب ثم برئ من المرض فالمستحب أن يعيد بنفسه ، وإن أغمي عليه فرمى عنه غيره فإن كان بغير إذنه لم يجزه ، وإن كان [ قد ] أذن له قبل أن يغمى عليه جاز ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) فيه مسألتان ( إحداهما ) قال الشافعي والأصحاب [ ص: 219 ] رحمهم الله : العاجز عن الرمي بنفسه لمرض أو حبس ونحوهما يستنيب من يرمي عنه لما ذكره المصنف ، وسواء كان المرض مرجو الزوال أو غيره لما ذكره المصنف ، وسواء استناب بأجرة أو بغيرها ، وسواء استناب رجلا أو امرأة . قال الشافعي والأصحاب . ويستحب أن يناول النائب الحصى إن قدر ، ويكبر العاجز ، ويرمي النائب ، ولو ترك المناولة مع قدرته صحت الاستنابة وأجزأه رمي النائب لوجود العجز عن الرمي قال أصحابنا في الطريقتين : ويجوز للمحبوس الممنوع من الرمي الاستنابة فيه سواء كان محبوسا بحق أو بغيره ، وهذا متفق عليه ، وعللوه بأنه عاجز . ثم إن جمهور الأصحاب في طريقتي العراق وخراسان أطلقوا جواز الاستنابة للمريض سواء كان مأيوسا من برئه أم لا ، وقال إمام الحرمين والرافعي وغيره من متابعي الإمام : إنما تجوز النيابة لعاجز بعلة لا يرجى زوالها قبل خروج وقت الرمي . قالوا : ولا يضر رجاء الزوال بعد فوات الوقت . وهذا الذي قاله الإمام ومتابعوه متعين ، وإطلاق الأصحاب محمول عليه . ولا يمنع من هذا قولهم فلو زال العجز في أيام الرمي لزمه رمي ما بقي ، لأنه قد لا يرجى زواله في أيام الرمي ثم يزول نادرا ، والله أعلم .

                                      ( المسألة الثانية ) لو أغمي على المحرم قبل الرمي ولم يكن أذن في الرمي عنه لم يصح الرمي عنه في إغمائه بلا خلاف ، وإن كان أذن فيه جاز الرمي عنه . هذا هو المذهب ، وبه قطع الجماهير في الطريقتين . ونقل الرافعي فيه وجها شاذا ضعيفا أنه لا يجوز . وحكى إمام الحرمين الجواز عن العراقيين فقال : قال العراقيون : لو استناب العاجز عن الرمي وصححنا الاستنابة فأغمي على المستنيب دامت النيابة وإن كان مقتضى الإغماء الطارئ على إذن انقطاع إذنه إذا كان أصل الإذن جائزا للوكالة ، ولكن الغرض هنا إقامة النائب مقام العاجز ، قال : وما ذكروه محتمل جدا ولا يمتنع خلافه . قال : وقد قالوا : لو استناب المعضوب في حياته من يحج عنه ثم [ ص: 220 ] مات المعضوب لم تنقطع الاستنابة . هكذا ذكروه في الإذن المجرد ، وهو بعيد ، ولكن لو فرض في الإجارة فالإجارة تبقى ولا تنقطع ، لأن الاستئجار عن الميت بعد موته ممكن فلا منافاة . وقد استحق منفعة الأجير ، قال : والذي ذكروه في الإذن جائز وهو محتمل في الإغماء بعيد في الموت ، هذا كلام الإمام . ثم إن الأصحاب في الطريقتين أطلقوا أنه إذا استناب قبل الإغماء جاز رمي النائب عنه في الإغماء كما ذكرنا . وقال الماوردي : إن كان حين أذن مطيقا للرمي لم يصح الرمي عنه في الإغماء لأن المطيق لا تصح النيابة عنه فلم يصح إذنه ، وإن كان حين الإذن عاجزا بأن كان مريضا فأذن ثم أغمي عليه صحت النيابة ، وصح رمي النائب . هذا كلام الماوردي ، ونقله الروياني في البحر عن الأصحاب ، وأشار إليه أبو علي البندنيجي وآخرون . وفي كلام إمام الحرمين الذي حكيته عنه الآن موافقته ، فليحمل إطلاق الأصحاب على من استناب في حال العجز ثم أغمي عليه . والله أعلم .

                                      واتفق الأصحاب على أنه لو أذن في حال إغمائه لم يصح إذنه ، وإن رمي عنه بذلك الإذن لم يصح ، لأن إذنه لم يصح ، لأن إذنه ساقط في كل شيء والله أعلم .

                                      والمجنون كالمغمي عليه في كل هذا ، صرح به المتولي وغيره .

                                      ( فرع ) استدل أصحابنا على جواز الاستنابة في الرمي بالقياس على الاستنابة في أصل الحج . قالوا : والرمي أولى بالجواز .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : وينبغي أن يستنيب العاجز حلالا أو من قد رمى عن نفسه فإن استناب من لم يرم عن نفسه ، فينبغي أن يرمي النائب [ ص: 221 ] عن نفسه ، ثم عن المستنيب فيجزئهما الراميان بلا خلاف ، فلو اقتصر على رمي واحد وقع عن الرامي لا عن المستنيب . هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور . وقال الماوردي والروياني : إذا رمى النائب عن المستنيب ثم عن نفسه رميا آخر أجزأه الرمي عن نفسه ، وفي الرمي المحسوب عن نفسه وجهان ( أحدهما ) أنه الرمي الثاني ، لأنه الذي قصده عن نفسه ( والثاني ) الأول ، لأن من عليه نسك إذا فعله عن غيره وقع عن نفسه كأصل الحج والطواف . قالا : وفي رميه عن المستنيب وجهان .

                                      ( أحدهما ) لا يجزئه عنه ، لأنا إن جعلنا الرمي الأول عن النائب فلم يقصد بالثاني ، وإن جعلنا الثاني عن النائب فقد رمى عن غيره قبل الرمي عن نفسه فلا يصح .

                                      ( والوجه الثاني ) أنه يجزئ الرمي عن المريض ، لأن المريض أخف من أصل الحج وأركانه ، فجاز فعله عن غيره مع بقائه على نفسه .

                                      ( فرع ) إذا رمى النائب ثم زال عذر المستنيب وأيام الرمي باقية فطريقان ( أصحهما ) وهو المنصوص وبه قطع المصنف والجمهور لا يلزمه إعادة الرمي بنفسه لكن يستحب له ، وإنما لم يلزمه لأن رمي النائب وقع عنه فسقط به الفرض .

                                      ( والطريق الثاني ) فيه قولان ( أحدهما ) يلزمه إعادة الرمية بنفسه ولا يجزئه فعل النائب ( والثاني ) لا يلزمه . قالوا : وهما كالقولين في المعضوب إذا أحج عنه ثم برئ . وممن حكى هذا الطريق وجزم به الفوراني والبغوي ووالده وصاحب البحر وحكاه أيضا طائفة وضعفته . ثم إن الخلاف في الرمي الذي فعله النائب قبل زوال العذر . أما الرمي الذي يدركه المستنيب بعد زوال عذره فيلزمه فعله بلا خلاف صرح به الماوردي والأصحاب ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية