الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
معنى كونه تعالى يحول بين المرء و قلبه

وقال تعالى : واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه [الأنفال : 24] ، قال ابن جرير : هذا من باب الإخبار من الله - عز وجل -; بأنه أملك لقلوب عباده منهم ، [ ص: 144 ] وأنه يحول بينهم وبين الأفئدة إذا شاء ، حتى لا يدرك الإنسان شيئا إلا بمشيئته - عز وجل - .

قال ابن عباس : يحول بين المؤمن وبين الكفر ومعاصي الله ، وبين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله .

وقال السدي : يحول بين الإنسان وقلبه ، فلا يستطيع أن يؤمن أو يكفر إلا بإذنه وإرادته .

قيل : هذا القول هو الذي دلت عليه البراهين العقلية; لأن أحوال القلوب اعتقادات ، ودواع وإرادات ، وتلك الإرادات لابد لها من فاعل مختار ، وهو الله تعالى ، فثبت بذلك أن المتصرف في القلب كيف شاء هو الله .

فالمعنى : أنه يحول بين المرء وخواطر قلبه ، أو إدراك قلبه ، بمعنى : أنه يمنعه من حصول مراده ، أو يمنعه من الإدراك والفهم ، كما منع المقلدين عن در الكتاب ، وفهم الحديث المستطاب .

قال مجاهد : يحول حتى يتركه لا يعقل ، فهم لا يكادون يفقهون حديثا ، وبأي حديث بعده يؤمنون! وقال تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [النساء : 79] .

وقد ورد في الكتاب العزيز مما يفيد مفاد هذه الآية كثير; كقوله تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [الشورى : 30] ، وغيرها .

وقد يظن أن هذه الآية تنافي قوله سبحانه : قل كل من عند الله [النساء : 78] ، وليس كذلك ، فالجمع ممكن; بأن إضافة الأشياء كلها إلى الله حقيقية ، وإلى فعل العبد مجازية .

وقال تعالى : وخلق كل شيء [الفرقان : 2] من الموجودات مما تطلق عليه صفة المخلوق فقدره تقديرا قدر كل شيء مما خلق بحكمته ، على ما أراد ، [ ص: 145 ] وهيأه لما يصلح له ، وسواه تسوية لا اعوجاج فيه ، ولا زيادة على ما تقتضيه حكمته ومصلحته ، ولا نقص على ذلك في بابي الدنيا والدين .

قال في «فتح البيان» : وهذا أوضح دليل على المعتزلة في خلق أفعال العباد . انتهى .

قال تعالى : وكل شيء فعلوه في الزبر [القمر : 52]; أي : في اللوح المحفوظ ، أو دواوين الحفظة البررة ، وكل صغير وكبير مستطر [القمر : 53]; أي : كل شيء من أعمال الخلق وأقوالهم وأفعالهم ، وما هو كائن منهم مستور في اللوح المحفوظ ، صغيره وكبيره ، جليله وحقيره .

وقال تعالى : ما أصاب من مصيبة في الأرض [الحديد : 22]; من زلزلة ، وقحط مطر ، وجدب ، وضعف نبات ، وقلته ، ونقص ثمار ، وعاهة زرع .

وقيل : أراد بها جميع الحوادث من خير وشر ، ولا في أنفسكم من الأوصاب والأسقام . قاله قتادة .

وقال مقاتل : إقامة الحدود . وقال ابن جريج : ضيق المعاش ، وقيل : موت الأولاد . وقيل غير ذلك . واللفظ أوسع مما هنالك إلا في كتاب مكتوب في اللوح المحفوظ من قبل أن نبرأها ; أي : نخلقها .

قال ابن عباس : هو شيء قد فرغ منه قبل أن تبرأ الأنفس ، وهذا يدل دلالة واضحة على أن القدر خيره وشره ، وحلوه ومره ، وقليله وكثيره ، من الله ، لا فعل للعبد فيه ، ولا عمل ، بل العبد ، وعمله ، وفعله ، وقوله ، وكل شيء يصدر منه ، فالله خالقه جميعه ، لا رب سواه ، ولا فاطر إلا إياه .

وقال تعالى : الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى [الأعلى : 2-3] الأولى عدم تعيين فرد أو أفراد مما يصدق عليه «قدر» و «هدى» إلا بدليل يدل عليه .

ومع عدم الدليل يحمل ما يصدق عليه معنى الفعلين ، إما على البدل ، أو على الشمول .

[ ص: 146 ] وعلى كل حال ، الآية دليل على أن الخالق لكل شيء ، والمقدر له ، والهادي إياه ، هو سبحانه ، لا فعل في ذلك لأحد من مخلوقاته ، وهو المراد .

عن علي - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع خصال :

1- «يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله»
; أي : يقر بالتوحيد والرسالة ، وهو أصل الإيمان وعموده الذي لا يستقيم لأحد الإيمان إلا بالاعتراف به لسانا ، وبالتصديق جنانا «بعثني بالحق» ; أي : إلى كافة الخلق .

2- «ويؤمن بالموت» ; أي : بفناء الدنيا وهلاكها ، بجميع أجزائها ، أو المراد : أن يعتقد أن الموت يأتي بحكم الله ، لا بالطبيعة وفساد المزاج ، أو المراد : العمل على مقتضى الإيمان بالموت .

3- «والبعث بعد الموت» ; أي : إحياء الله الموتى بعد الموت ، وحشره إياهم من القبور وغيرها .

4- «ويؤمن بالقدر» ; أي : بتقدير الله الذي قدر الجواهر والأعراض ، والذوات والصفات وجميع الكائنات وعينها . رواه الترمذي ، وابن ماجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية