الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : أحلت لكم بهيمة الأنعام قيل في الأنعام إنها الإبل والبقر والغنم ، وقال بعضهم : الإطلاق يتناول الإبل وإن كانت منفردة ، ويتناول البقر والغنم إذا كانت مع الإبل ، ولا تتناولهما منفردة عن الإبل ؛ وقد روي عن الحسن القول الأول .

وقيل : إن الأنعام تقع على هذه الأصناف الثلاثة وعلى الظباء وبقر الوحش ولا يدخل فيها الحافر ؛ لأنه أخذ من نعومة الوطء ؛ ويدل على هذا القول استثناؤه الصيد منها بقوله في نسق التلاوة : غير محلي الصيد وأنتم حرم ويدل على أن الحافر غير داخل في الأنعام قوله تعالى : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ثم عطف عليه قوله تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها .

وقد روي عن ابن عباس أنه قال في جنين البقرة : " إنها بهيمة الأنعام " وهو كذلك ؛ لأن البقرة من الأنعام . وإنما قال بهيمة الأنعام وإن كانت الأنعام كلها من البهائم ؛ لأنه بمنزلة قوله : " أحل لكم البهيمة التي هي الأنعام " فأضاف البهيمة إلى الأنعام وإن كانت هي ، كما تقول نفس الإنسان .

ومن الناس من يظن أن هذه الإباحة معقودة بشرط الوفاء بالعقود المذكورة في الآية ؛ وليس كذلك ؛ لأنه لم يجعل الوفاء بالعقود شرطا للإباحة ولا أخرجه مخرج المجازاة ، ولكنه وجه الخطاب إلينا بلفظ الإيمان في قوله [ ص: 289 ] تعالى : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود

ولا يوجب ذلك الاقتصار بالإباحة على المؤمنين دون غيرهم ، بل الإباحة عامة لجميع المكلفين كفارا كانوا أو مؤمنين ، كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها وهو حكم عام في المؤمنين والكفار مع ورود اللفظ خاصا بخطاب المؤمنين .

وكذلك كل ما أباحه الله تعالى للمؤمنين فهو مباح لسائر المكلفين ، كما أن كل ما أوجبه وفرضه فهو فرض على جميع المكلفين إلا أن يخص بعضهم دليل ؛ وكذلك قلنا : إن الكفار مستحقون للعقاب على ترك الشرائع كما يستحقون على ترك الإيمان .

فإن قيل : إذا كان ذبح البهائم محظورا إلا بعد ورود السمع به ، فمن لم يعتقد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم واستباحته من طريق الشرع فحكمه في حظره عليه باق على الأصل ، وقائل هذا القول يقول إن ذبح البهائم محظور على الكفار أهل الكتاب منهم وغيرهم وهم عصاة في ذبحها ، وإن كان أكل ما ذبحه أهل الكتاب مباحا لنا . وزعم هذا القائل أن للملحد أن يأكل بعد الذبح وليس له أن يذبح .

وليس هذا عند سائر أهل العلم كذلك ؛ لأنه لو كان أهل الكتاب عصاة بذبحهم لأجل دياناتهم لوجب أن تكون ذبائحهم غير مذكاة ، مثل المجوسي لما كان ممنوعا من الذبح لأجل اعتقاده لم يكن ذبحه ذكاة ، وفي ذلك دليل على أن الكتابي غير عاص في ذبح البهائم وأنه مباح له كهو لنا . وأما قوله : " إنه إذا لم يعتقد صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم واستباحته من طريق الشرع فحكم حظر الذبح قائم عليه " فليس كذلك ؛ لأن اليهود والنصارى قد قامت عليهم حجة السمع بكتب الأنبياء المتقدمين في إباحة ذبح البهائم . وأيضا فإن ذلك لا يمنع صحة ذكاته ؛ لأن رجلا لو ترك التسمية على الذبيحة عامدا لكان عندنا عاصيا بذلك ، وكان لمن يعتقد جواز ترك التسمية عليها أن يأكلها ، ولم يكن كون الذابح عاصيا مانعا صحة ذكاته .

التالي السابق


الخدمات العلمية