الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
النصوص الدالة على إثبات القدر من الكتاب والسنة

وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : «إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، قال : ما أكتب ؟ قال : اكتب القدر ، فكتب ما كان ، وما هو كائن إلى الأبد» .

قال في الترجمة : إنما قال : «ما كان وما يكون» بالنظر إلى زمنه ، لا بالنسبة إلى زمان التقدير; لأنه ليس بالنسبة إلى الأزل الذي كتب فيه زمان ماض . رواه الترمذي ، قال : هذا حديث غريب إسنادا .

قال في الترجمة : قد تقدم في المقدمة : أن الغرابة لا تنافي الصحة ، إلا أن يراد بها : الشذوذ . انتهى .

وفي حديث عبادة بن الوليد بن عبادة ، قال : حدثني أبي ، قال : دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت ، فقلت : يا أبتاه ! أوصني ، واجتهد لي ، فقال : أجلسوني ، فقال : يا بني! إنك لن تجد طعم الإيمان ، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله ، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره .

[ ص: 167 ] قلت : يا أبتاه ! وكيف أعلم ما خير القدر وشره ؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك . يا بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» . يا بني! إن مت ولست على ذلك ، دخلت النار
. رواه أحمد ، وأبو داود ، ورواه الترمذي بسنده المتصل إلى عطاء بن أبي رباح ، عن الوليد بن عبادة ، عن أبيه ، وقال : حسن ، صحيح ، غريب .

قال في «فتح المجيد» : وفي هذا الحديث ونحوه : بيان شمول علم الله تعالى ، وإحاطته بما كان وما يكون في الدنيا والآخرة .

كما قال تعالى : الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [الطلاق : 12] .

وقد قال الإمام أحمد - حين سئل عن القدر - : القدر قدرة الرحمن .

واستحسن هذا ابن عقيل عن أحمد .

والمعنى : أنه لا يمتنع من قدرة الله شيء ، ونفاة القدر قد جحدوا كمال قدرة الله ، وضلوا عن سواء السبيل .

وقد قال بعض السلف : ناظروهم بالعلم ، فإن أقروا به ، خصموا ، وإن جحدوا ، كفروا .

قال العماد بن كثير - بعد رواية حديث علي المتقدم الذي فيه : «حتى يؤمن بأربع» - : وروي عن ابن عمرو : أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله كتب مقادير السموات والأرض . . . بخمسين ألف سنة» رواه مسلم .

وزاد ابن وهب : «وكان عرشه على الماء» رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن غريب .

قال : وكل هذه الأحاديث ، وما في معناها ، وما فيها من الوعيد الشديد على [ ص: 168 ] عدم الإيمان بالقدر ، هي الحجة على نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم .

ومن مذهبهم تخليد أهل المعاصي في النار ، وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر وأعظم المعاصي .

وفي الحقيقة : إذا اعتبرنا إقامة الحجة عليهم بما تواترت به نصوص الكتاب والسنة من إثبات القدر ، فقد حكموا على أنفسهم بالخلود في النار ، إن لم يتوبوا ، وهذا لازم لهم على مذهبهم .

هذا ، وقد خالفوا ما تواترت به أدلة القرآن والحديث من إثبات القدر ، وعدم تخليد أهل الكبائر من الموحدين في النار . انتهى .

قال في الترجمة : المراد بكتب المقادير : إثباتها في اللوح المحفوظ بإجراء القلم عليها ، أو أمر الملائكة بكتبها .

وقال بعضهم : المراد بالكتب : التقدير والتعيين ، حتى لا يكون خلافه . وهذا هو التأويل .

والظاهر من كتبها : إثبات النقوش والحروف في اللوح ونحوه .

والمراد «بخمسين ألف سنة» : طول المدة ، والمبالغة في التمادي بين التقدير وخلق السماوات والأرض ، لا تعيين هذا العدد وتحديده; لأنه كان تقدير مقادير الخلق وتعيينها في الأزل ، فلا يصح تعيين سبقها بعدد معين من الزمان ، كذا قالوا .

وهذا القول مبني على تأويل الكتاب بالتقدير والتعيين .

ولا حاجة في حمل الكتابة على الحقيقة إلى هذا التأويل; لأنه يمكن أن يكون التقدير في الأزل ، والكتابة في لا يزال ، قبل خلق السموات والأرض بمدة مذكورة ، كما لا يخفى . انتهى .

قلت : والحق هو الحمل على الحقيقة دون المجاز . وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل شيء [ ص: 169 ] بقدر» ; أي : بقدر الله تعالى وقضائه ، «حتى العجز والكيس» اللذين هما من صفات الآدميين .

«والعجز» : ضد القدرة ، «والكيس» : خلاف الحمق .

وقال في الترجمة : المراد بالعجز : الضعف ، والقعود عن إمضاء الأمور بسبب ضعف الرأي ، وقلة العقل ، وفقد التجربة .

والمراد بالكيس : القوة ، والتعجيل في إمضاء الأمور بقوة الرأي ، وتصميم العزم . وهو - بفتح الكاف وسكون الياء التحتية - . انتهى .

وعن أبي موسى ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الله تعالى خلق آدم من قبضة - بالضم ، وبالفتح - قبضها من جميع الأرض» ، ومن كل موضع منها أمر به الملك ، «فجاء بنو آدم على قدر الأرض» ; أي : مبلغها من الألوان والطباع في الصور والسير «منهم الأحمر ، والأبيض ، والأسود ، وبين ذلك ، والسهل» ; أي : اللين والهين ، «والحزن» - بفتح الحاء وسكون الزاي - : الغليظ ، وهو ضد السهل ، «والخبيث والطيب» ; أي : النجس ، والطاهر ، والمكروه ، والمحبوب .

والخبيث من الأرض : ما لا ينبت ، وضده الطيب .

وهذه الصفات الأربعة تتعلق بالباطن ، كما أن الخصال الأربعة الأولى تتعلق بالظاهر . رواه أحمد ، والترمذي ، وأبو داود .

والحديث دليل على صحة القضاء والقدر ، وأن ما هو كائن قد سبق به القدر والقضاء ، وليس الأمر بأنف .

وعن عبد الله بن عمرو ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الله خلق خلقه في ظلمة ، فألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل ، فلذلك أقول : جف القلم على علم الله» .

قال في الترجمة : قيل : المراد : خلق الجن والإنس ، ويحتمل أن يكون مختصا بالإنس .

[ ص: 170 ] والمراد بالظلمة : ما جبلوا عليه من أهواء النفس وشهواتها الردية الطبيعية ، الموجبة للضلال والهلاك .

والمراد بالنور المضاف إلى الحق : النور الذي خلقه من الآيات البينة ، والحجج النيرة المنبثة في الأنفس والآفاق ، من الدلائل العقلية والنقلية .

والمراد بإصابة هذا النور : الاعتبار به ، والانتفاع ، والاستدلال على وجود الباري تعالى وصفاته ، وحقية دين الإسلام .

فمن شاء أن يهديه بتلك الأنوار والآيات ، وينفعه بها ، هداه إلى الصراط السوي المستقيم ، ومن لم يرد هدايته ، وأراد حرمانه من ذاك النور ، ضل عنه وغوى .

كما قال تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس [الأنعام : 122] ، وقال : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه [الزمر : 22] ، وهذا دليل على أن الهداية والضلالة بمشيئة الحق ، وتدبيره - جل وعلا . رواه أحمد ، والترمذي .

قال في الترجمة : إن قيل : خلق الخلق في الظلمة في أي وقت كان ؟ فإن كان في وقت إخراج الذراري من ظهور بني آدم ، فكانوا كلهم مهتدين هناك ، مقرين بربوبية الحق ، لم يظهر أثر الضلالة أصلا .

وإن كان المراد : وقت الولادة والخروج من بطون الأمهات ، فكلهم في تلك الحالة منورون بنور الفطرة .

والجواب : إن في يوم ألست أقر بعضهم بربوبية الحق طوعا ورغبة ، وبعضهم كرها من جهة غلبة سطوة الجلال .

فمن أقر بالرغبة ، ألقي عليه نور الهداية ، وأصابه . ومن أقر بالكره ، حرم من ذلك النور .

التالي السابق


الخدمات العلمية