[ ص: 131 ] ( سورة الجن )
وهي عشرون وثمان آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
(
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=1قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
(
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=1قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلف الناس قديما وحديثا في
nindex.php?page=treesubj&link=28794ثبوت الجن ونفيه ، فالنقل الظاهر عن أكثر الفلاسفة إنكاره ، وذلك لأن
nindex.php?page=showalam&ids=13251أبا علي بن سينا قال في رسالته في حدود الأشياء :
nindex.php?page=treesubj&link=28796الجن حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة ، ثم قال : وهذا شرح للاسم . فقوله : وهذا شرح للاسم يدل على أن هذا الحد شرح للمراد من هذا اللفظ , وليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج ، وأما جمهور أرباب الملل والمصدقين للأنبياء فقد اعترفوا بوجود الجن ، واعترف به جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات , ويسمونها بالأرواح السفلية ، وزعموا أن الأرواح السفلية أسرع إجابة إلا أنها أضعف ، وأما الأرواح الفلكية فهي أبطأ إجابة إلا أنها أقوى .
واختلف المثبتون على قولين : فمنهم من زعم أنها ليست أجساما ولا حالة في الأجسام , بل هي جواهر قائمة بأنفسها ، قالوا : ولا يلزم من هذا أن يقال : إنها تكون مساوية لذات الله ؛ لأن كونها ليست أجساما ولا جسمانية سلوب والمشاركة في السلوب لا تقتضي المساواة في الماهية ، قالوا : ثم إن هذه الذوات بعد اشتراكها في هذا السلب أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض بعد استوائها في الحاجة إلى المحل فبعضها خيرة ، وبعضها شريرة ، وبعضها كريمة محبة للخيرات ، وبعضها دنيئة خسيسة محبة للشرور والآفات ، ولا يعرف عدد أنواعهم وأصنافهم إلا الله ، قالوا : وكونها موجودات مجردة لا يمنع من كونها عالمة بالخبريات قادرة على الأفعال ، فهذه الأرواح يمكنها أن تسمع وتبصر وتعلم الأحوال الخبرية وتفعل الأفعال المخصوصة ، ولما ذكرنا أن ماهياتها مختلفة لا جرم لم يبعد أن يكون في أنواعها ما يقدر على أفعال شاقة عظيمة تعجز عنها قدرة البشر ، ولا يبعد أيضا أن يكون لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم ، وكما أنه دلت الدلائل الطبية على أن المتعلق الأول للنفس الناطقة التي ليس الإنسان إلا هي ، هي الأرواح وهي أجسام
[ ص: 132 ] بخارية لطيفة تتولد من ألطف أجزاء الدم وتتكون في الجانب الأيسر من القلب , ثم بواسطة تعلق النفس بهذه الأرواح تصير متعلقة بالأعضاء التي تسري فيها هذه الأرواح , لم يبعد أيضا أن يكون لكل واحد من هؤلاء الجن تعلق بجزء من أجزاء الهواء ، فيكون ذلك الجزء من الهواء هو المتعلق الأول لذلك الروح , ثم بواسطة سيران ذلك الهواء في جسم آخر كثيف يحصل لتلك الأرواح تعلق وتصرف في تلك الأجسام الكثيفة ، ومن الناس من ذكر في الجن طريقة أخرى فقال : هذه الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها وازدادت قوة وكمالا بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية , فإذا اتفق أن حدث بدن آخر مشابه لما كان لتلك النفس المفارقة من البدن ، فبسبب تلك المشاكلة يحصل لتلك النفس المفارقة تعلق ما لهذا البدن ، فإن الجنسية علة الضم ، فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمي ذلك المعين ملكا وتلك الإعانة إلهاما ، وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطانا وتلك الإعانة وسوسة .
والقول الثاني : في الجن أنهم أجسام . ثم القائلون بهذا المذهب اختلفوا على قولين ، منهم من زعم أن الأجسام مختلفة في ماهياتها ، إنما المشترك بينها صفة واحدة ، وهي كونها بأسرها حاصلة في الحيز والمكان والجهة , وكونها موصوفة بالطول والعرض والعمق ، وهذه كلها إشارة إلى الصفات ، والاشتراك في الصفات لا يقتضي الاشتراك في تمام الماهية لما ثبت أن الأشياء المختلفة في تمام الماهية لا يمتنع اشتراكها في لازم واحد .
قالوا : وليس لأحد أن يحتج على تماثل الأجسام بأن يقال : الجسم من حيث إنه جسم له حد واحد ، وحقيقة واحدة ، فيلزم أن لا يحصل التفاوت في ماهية الجسم من حيث هو جسم ، بل إن حصل التفاوت حصل في مفهوم زائد على ذلك ، وأيضا فلأنه يمكننا تقسيم الجسم إلى اللطيف والكثيف ، والعلوي والسفلي ، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام ، فالأقسام كلها مشتركة في الجسمية ، والتفاوت إنما يحصل بهذه الصفات ، وهي اللطافة والكثافة ، وكونها علوية وسفلية . قالوا : وهاتان الحجتان ضعيفتان .
أما الحجة الأولى : فلأنا نقول : كما أن الجسم من حيث إنه جسم له حد واحد ، وحقيقة واحدة ، فكذا العرض من حيث إنه عرض له حد واحد وحقيقة واحدة ، فيلزم منه أن تكون الأعراض كلها متساوية في تمام الماهية ، وهذا مما لا يقوله عاقل ، بل الحق عند الفلاسفة أنه ليس للأعراض ألبتة قدر مشترك بينها من الذاتيات ، إذا لو حصل بينها قدر مشترك ، لكان ذلك المشترك جنسا لها ، ولو كان كذلك لما كانت التسعة أجناسا عالية بل كانت أنواع جنس واحد ، إذا ثبت هذا فنقول : الأعراض من حيث إنها أعراض لها حقيقة واحدة ، ولم يلزم من ذلك أن يكون بينها ذاتي مشترك أصلا ، فضلا عن أن تكون متساوية في تمام الماهية ، فلم لا يجوز أن يكون الحال في الجسم كذلك ، فإنه كما أن الأعراض مختلفة في تمام الماهية ، ثم إن تلك المختلفات متساوية في وصف عارض , وهو كونها عارضة لموضوعاتها ، فكذا من الجائز أن تكون ماهيات الأجسام مختلفة في تمام ماهياتها , ثم إنها تكون متساوية في وصف عارض ، وهو كونها مشارا إليها بالحس وحاصلة في الحيز والمكان ، وموصوفة بالأبعاد الثلاثة ، فهذا الاحتمال لا دافع له أصلا .
وأما الحجة الثانية : وهي قولهم : إنه يمكن تقسيم الجسم إلى اللطيف والكثيف فهي أيضا منقوضة بالعرض فإنه يمكن تقسيم العرض إلى الكيف والكم ولم يلزم أن يكون هناك قدر مشترك من الذاتي فضلا
[ ص: 133 ] عن التساوي في كل الذاتيات فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا أيضا كذلك إذا ثبت أنه لا امتناع في كون الأجسام مختلفة ولم يدل دليل على بطلان هذا الاحتمال ، فحينئذ قالوا : لا يمتنع في بعض الأجسام اللطيفة الهوائية أن تكون مخالفة لسائر أنواع الهواء في الماهية , ثم تكون تلك الماهية تقتضي لذاتها علما مخصوصا وقدرة مخصوصة على أفعال عجيبة ، وعلى هذا التقدير يكون القول بالجن ظاهر الاحتمال , وتكون قدرتها على التشكل بالأشكال المختلفة ظاهرة الاحتمال .
القول الثاني : قول من قال : الأجسام متساوية في تمام الماهية ، والقائلون بهذا المذهب أيضا فرقتان .
الفرقة الأولى : الذين زعموا أن البنية ليست شرطا للحياة , وهذا قول
الأشعري وجمهور أتباعه , وأدلتهم في هذا الباب ظاهرة قوية ، قالوا : ولو كانت البنية شرطا للحياة لكان إما أن يقال : إن الحياة الواحدة قامت بمجموع الأجزاء أو يقال : قام بكل واحد من الأجزاء حياة على حدة ، والأول محال ؛ لأن حلول العرض الواحد في المحال الكثيرة دفعة واحدة غير معقول ، والثاني أيضا باطل ؛ لأن الأجزاء التي منها تألف الجسم متساوية , والحياة القائمة بكل واحد منها مساوية للحياة القائمة بالجزء الآخر , وحكم الشيء حكم مثله ، فلو افتقر قيام الحياة بهذا الجزء إلى قيام تلك الحياة بذلك الجزء لحصل هذا الافتقار من الجانب الآخر , فيلزم وقوع الدور وهو محال ، وإن لم يحصل هذا الافتقار فحينئذ ثبت أن قيام الحياة بهذا الجزء لا يتوقف على قيام الحياة الثانية بذلك الجزء الثاني ، وإذا بطل هذا التوقف ثبت أنه يصح كون الجزء الواحد موصوفا بالحياة والعلم والقدرة والإرادة , وبطل القول بأن البنية شرط ، قالوا : وأما دليل المعتزلة وهو أنه لا بد من البنية فليس إلا الاستقراء , وهو أنا رأينا أنه متى فسدت البنية بطلت الحياة ومتى لم تفسد بقيت الحياة , فوجب توقف الحياة على حصول البنية ، إلا أن هذا ركيك ، فإن الاستقراء لا يفيد القطع بالوجوب ، فما الدليل على أن حال من لم يشاهد كحال ما شوهد ، وأيضا فلأن هذا الكلام إنما يستقيم على قول من ينكر خرق العادات ، أما من يجوزها فهذا لا يتمشى على مذهبه , والفرق بينهما في جعل بعضها على سبيل العادة , وجعل بعضها على سبيل الوجوب تحكم محض لا سبيل إليه ، فثبت أن البنية ليست شرطا في الحياة ، وإذا ثبت هذا لم يبعد أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علما بأمور كثيرة وقدرة على أشياء شاقة شديدة ، وعند هذا ظهر القول بإمكان وجود الجن ، سواء كانت أجسامهم لطيفة أو كثيفة ، وسواء كانت أجزاؤهم كبيرة أو صغيرة .
القول الثاني : أن البنية شرط الحياة , وأنه لا بد من صلابة في البنية حتى يكون قادرا على الأفعال الشاقة فههنا مسألة أخرى ، وهي أنه هل يمكن أن يكون المرئي حاضرا والموانع مرتفعة والشرائط من القرب والبعد حاصلة ، وتكون الحاسة سليمة ، ثم مع هذا لا يحصل الإدراك ، أو يكون هذا ممتنعا عقلا ؟ أما
الأشعري وأتباعه فقد جوزوه ، وأما
المعتزلة فقد حكموا بامتناعه عقلا ،
والأشعري احتج على قوله بوجوه عقلية ونقلية ؛ أما العقلية فأمران :
الأول : أنا نرى الكبير من البعد صغيرا , وما ذاك إلا أنا نرى بعض أجزاء ذلك البعيد دون البعض مع أن نسبة الحاسة وجميع الشرائط إلى تلك الأجزاء المرئية كهي بالنسبة إلى الأجزاء التي هي غير مرئية , فعلمنا أن مع حصول سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول الشرائط وانتفاء الموانع لا يكون الإدراك واجبا .
الثاني : أن الجسم الكبير لا معنى له إلا مجموع تلك الأجزاء المتألفة ، فإذا رأينا ذلك الجسم الكبير على مقدار من البعد فقد رأينا تلك الأجزاء ، فإما أن تكون رؤية هذا الجزء مشروطة برؤية ذلك الجزء الآخر
[ ص: 134 ] أو لا تكون ، فإن كان الأول يلزم الدور ؛ لأن الأجزاء متساوية فلو افتقرت رؤية هذا الجزء إلى رؤية ذلك الجزء لافتقرت أيضا رؤية ذلك الجزء إلى رؤية هذا الجزء , فيقع الدور ، وإن لم يحصل هذا الافتقار فحينئذ رؤية الجوهر الفرد على ذلك القدر من المسافة تكون ممكنة ، ثم من المعلوم أن ذلك الجوهر الفرد لو حصل وحده من غير أن ينضم إليه سائر الجواهر فإنه لا يرى ، فعلمنا أن حصول الرؤية عند اجتماع الشرائط لا يكون واجبا بل جائزا ، وأما المعتزلة فقد عولوا على أنا لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكون بحضرتنا طبلات وبوقات ولا نراها ولا نسمعها , فإذا عارضناهم بسائر الأمور العادية وقلنا لهم فجوزوا أن يقال : انقلبت مياه البحار ذهبا وفضة ، والجبال ياقوتا وزبرجدا ، أو حصلت في السماء حال ما غمضت العين ألف شمس وقمر ، ثم لما فتحت العين أعدمها الله ، عجزوا عن الفرق .
والسبب في هذا التشوش أن هؤلاء
المعتزلة نظروا إلى هذه الأمور المطردة في مناهج العادات ، فوهموا أن بعضها واجبة ، وبعضها غير واجبة ، ولم يجدوا قانونا مستقيما ، ومأخذا سليما في الفرق بين البابين ، فتشوش الأمر عليهم ، بل الواجب أن يسوى بين الكل ، فيحكم على الكل بالوجوب ، كما هو قول الفلاسفة ، أو على الكل بعدم الوجوب ، كما هو قول
الأشعري .
فأما التحكم في الفرق فهو بعيد ، إذا ثبت هذا ظهر جواز القول بالجن ، فإن أجسامهم وإن كانت كثيفة قوية إلا أنه يمتنع أن لا تراها ، وإن كانوا حاضرين هذا على قول
الأشعري فهذا هو تفصيل هذه الوجوه ، وأنا متعجب من هؤلاء
المعتزلة أنهم كيف يصدقون ما جاء في القرآن من إثبات الملك والجن مع استمرارهم على مذاهبهم ، وذلك لأن
nindex.php?page=treesubj&link=29728_28734القرآن دل على أن للملائكة قوة عظيمة على الأفعال الشاقة ، والجن أيضا كذلك ، وهذه القدرة لا تثبت إلا في الأعضاء الكثيفة الصلبة ، فإذا يجب في الملك والجن أن يكون كذلك ، ثم إن هؤلاء
nindex.php?page=treesubj&link=29655_29747الملائكة حاضرون عندنا أبدا ، وهم الكرام الكاتبون والحفظة ، ويحضرون أيضا عند قبض الأرواح ، وقد كانوا يحضرون عند الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن أحدا من القوم ما كان يراهم ، وكذلك الناس الجالسون عند من يكون في النزع لا يرون أحدا ، فإن وجبت رؤية الكثيف عند الحضور فلم لا نراها ؟ وإن لم تجب الرؤية فقد بطل مذهبهم ، وإن كانوا موصوفين بالقوة والشدة مع عدم الكثافة والصلابة فقد بطل قولهم : إن البنية شرط الحياة ، وإن قالوا : إنها أجسام لطيفة وحية ، ولكنها للطافتها لا تقدر على الأعمال الشاقة ، فهذا إنكار لصريح القرآن ، وبالجملة فحالهم في الإقرار بالملك والجن مع هذه المذاهب عجيب ، وليتهم ذكروا على صحة مذاهبهم شبهة مخيلة فضلا عن حجة مبينة ، فهذا هو التنبيه على ما في هذا الباب من الدقائق والمشكلات ، وبالله التوفيق .
[ ص: 131 ] ( سُورَةُ الْجِنِّ )
وَهِيَ عِشْرُونَ وَثَمَانِ آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=1قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=1قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ) وَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اخْتَلَفَ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28794ثُبُوتِ الْجِنِّ وَنَفْيِهِ ، فَالنَّقْلُ الظَّاهِرُ عَنْ أَكْثَرِ الْفَلَاسِفَةِ إِنْكَارُهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=13251أَبَا عَلِيِّ بْنَ سِينَا قَالَ فِي رِسَالَتِهِ فِي حُدُودِ الْأَشْيَاءِ :
nindex.php?page=treesubj&link=28796الْجِنُّ حَيَوَانٌ هَوَائِيٌّ مُتَشَكِّلٌ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا شَرْحٌ لِلِاسْمِ . فَقَوْلُهُ : وَهَذَا شَرْحٌ لِلِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدَّ شَرْحٌ لِلْمُرَادِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ , وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ ، وَأَمَّا جُمْهُورُ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَالْمُصَدِّقِينَ لِلْأَنْبِيَاءِ فَقَدِ اعْتَرَفُوا بِوُجُودِ الْجِنِّ ، وَاعْتَرَفَ بِهِ جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنْ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَأَصْحَابِ الرُّوحَانِيَّاتِ , وَيُسَمُّونَهَا بِالْأَرْوَاحِ السُّفْلِيَّةِ ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَرْوَاحَ السُّفْلِيَّةَ أَسْرَعُ إِجَابَةً إِلَّا أَنَّهَا أَضْعَفُ ، وَأَمَّا الْأَرْوَاحُ الْفَلَكِيَّةُ فَهِيَ أَبْطَأُ إِجَابَةً إِلَّا أَنَّهَا أَقْوَى .
وَاخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَجْسَامًا وَلَا حَالَّةً فِي الْأَجْسَامِ , بَلْ هِيَ جَوَاهِرُ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا ، قَالُوا : وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ : إِنَّهَا تَكُونُ مُسَاوِيَةً لِذَاتِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا لَيْسَتْ أَجْسَامًا وَلَا جُسْمَانِيَّةَ سَلُوبٍ وَالْمُشَارَكَةُ فِي السَّلُوبِ لَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي الْمَاهِيَّةِ ، قَالُوا : ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الذَّوَاتِ بَعْدَ اشْتِرَاكِهَا فِي هَذَا السَّلْبِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ كَاخْتِلَافِ مَاهِيَّاتِ الْأَعْرَاضِ بَعْدَ اسْتِوَائِهَا فِي الْحَاجَةِ إِلَى الْمَحَلِّ فَبَعْضُهَا خَيِّرَةٌ ، وَبَعْضُهَا شِرِّيرَةٌ ، وَبَعْضُهَا كَرِيمَةٌ مُحِبَّةٌ لِلْخَيْرَاتِ ، وَبَعْضُهَا دَنِيئَةٌ خَسِيسَةٌ مُحِبَّةٌ لِلشُّرُورِ وَالْآفَاتِ ، وَلَا يَعْرِفُ عَدَدَ أَنْوَاعِهِمْ وَأَصْنَافِهِمْ إِلَّا اللَّهُ ، قَالُوا : وَكَوْنُهَا مَوْجُودَاتٍ مُجَرَّدَةً لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهَا عَالِمَةً بِالْخَبَرِيَّاتِ قَادِرَةً عَلَى الْأَفْعَالِ ، فَهَذِهِ الْأَرْوَاحُ يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْمَعَ وَتُبْصِرَ وَتَعْلَمَ الْأَحْوَالَ الْخَبَرِيَّةَ وَتَفْعَلَ الْأَفْعَالَ الْمَخْصُوصَةَ ، وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ مَاهِيَّاتِهَا مُخْتَلِفَةٌ لَا جَرَمَ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ فِي أَنْوَاعِهَا مَا يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالٍ شَاقَّةٍ عَظِيمَةٍ تَعْجَزُ عَنْهَا قُدْرَةُ الْبَشَرِ ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا تَعَلُّقٌ بِنَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنْ أَجْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ ، وَكَمَا أَنَّهُ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الطِّبِّيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ الْأَوَّلَ لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ الَّتِي لَيْسَ الْإِنْسَانُ إِلَّا هِيَ ، هِيَ الْأَرْوَاحُ وَهِيَ أَجْسَامٌ
[ ص: 132 ] بُخَارِيَّةٌ لَطِيفَةٌ تَتَوَلَّدُ مِنْ أَلْطَفِ أَجْزَاءِ الدَّمِ وَتَتَكَوَّنُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنَ الْقَلْبِ , ثُمَّ بِوَاسِطَةِ تَعَلُّقِ النَّفْسِ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ تَصِيرُ مُتَعَلِّقَةً بِالْأَعْضَاءِ الَّتِي تَسْرِي فِيهَا هَذِهِ الْأَرْوَاحُ , لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجِنِّ تَعَلُّقٌ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَوَاءِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنَ الْهَوَاءِ هُوَ الْمُتَعَلِّقَ الْأَوَّلَ لِذَلِكَ الرُّوحِ , ثُمَّ بِوَاسِطَةِ سَيَرَانِ ذَلِكَ الْهَوَاءِ فِي جِسْمٍ آخَرَ كَثِيفٍ يَحْصُلُ لِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ تَعَلُّقٌ وَتَصَرُّفٌ فِي تِلْكَ الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ذَكَرَ فِي الْجِنِّ طَرِيقَةً أُخْرَى فَقَالَ : هَذِهِ الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ وَالنُّفُوسُ النَّاطِقَةُ إِذَا فَارَقَتْ أَبْدَانَهَا وَازْدَادَتْ قُوَّةً وَكَمَالًا بِسَبَبِ مَا فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ مِنَ انْكِشَافِ الْأَسْرَارِ الرُّوحَانِيَّةِ , فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ حَدَثَ بَدَنٌ آخَرُ مُشَابِهٌ لِمَا كَانَ لِتِلْكَ النَّفْسِ الْمُفَارِقَةِ مِنَ الْبَدَنِ ، فَبِسَبَبِ تِلْكَ الْمُشَاكَلَةِ يَحْصُلُ لِتِلْكَ النَّفْسِ الْمُفَارِقَةِ تَعَلُّقٌ مَا لِهَذَا الْبَدَنِ ، فَإِنَّ الْجِنْسِيَّةَ عِلَّةُ الضَّمِّ ، فَإِنِ اتَّفَقَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ فِي النُّفُوسِ الْخَيِّرَةِ سُمِّيَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ مَلَكًا وَتِلْكَ الْإِعَانَةُ إِلْهَامًا ، وَإِنِ اتَّفَقَتْ فِي النُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ سُمِّيَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ شَيْطَانًا وَتِلْكَ الْإِعَانَةُ وَسْوَسَةً .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي الْجِنِّ أَنَّهُمْ أَجْسَامٌ . ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ ، مِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُخْتَلِفَةٌ فِي مَاهِيَّاتِهَا ، إِنَّمَا الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهَا صِفَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ كَوْنُهَا بِأَسْرِهَا حَاصِلَةً فِي الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ , وَكَوْنُهَا مَوْصُوفَةً بِالطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ ، وَهَذِهِ كُلُّهَا إِشَارَةٌ إِلَى الصِّفَاتِ ، وَالِاشْتِرَاكُ فِي الصِّفَاتِ لَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ لَا يَمْتَنِعُ اشْتِرَاكُهَا فِي لَازِمٍ وَاحِدٍ .
قَالُوا : وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ بِأَنْ يُقَالَ : الْجِسْمُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جِسْمٌ لَهُ حَدٌّ وَاحِدٌ ، وَحَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَحْصُلَ التَّفَاوُتُ فِي مَاهِيَّةِ الْجِسْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ جِسْمٌ ، بَلْ إِنْ حَصَلَ التَّفَاوُتُ حَصَلَ فِي مَفْهُومٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ يُمْكِنُنَا تَقْسِيمُ الْجِسْمِ إِلَى اللَّطِيفِ وَالْكَثِيفِ ، وَالْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ ، وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَقْسَامِ ، فَالْأَقْسَامُ كُلُّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ ، وَالتَّفَاوُتُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ، وَهِيَ اللَّطَافَةُ وَالْكَثَافَةُ ، وَكَوْنُهَا عُلْوِيَّةً وَسُفْلِيَّةً . قَالُوا : وَهَاتَانِ الْحُجَّتَانِ ضَعِيفَتَانِ .
أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى : فَلِأَنَّا نَقُولُ : كَمَا أَنَّ الْجِسْمَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جِسْمٌ لَهُ حَدٌّ وَاحِدٌ ، وَحَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَكَذَا الْعَرَضُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَرَضٌ لَهُ حَدٌّ وَاحِدٌ وَحَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ الْأَعْرَاضُ كُلُّهَا مُتَسَاوِيَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ ، بَلِ الْحَقُّ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَعْرَاضِ أَلْبَتَّةَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا مِنَ الذَّاتِيَّاتِ ، إِذَا لَوْ حَصَلَ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ ، لَكَانَ ذَلِكَ الْمُشْتَرَكُ جِنْسًا لَهَا ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتِ التِّسْعَةُ أَجْنَاسًا عَالِيَةً بَلْ كَانَتْ أَنْوَاعَ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : الْأَعْرَاضُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أَعْرَاضٌ لَهَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا ذَاتِيٌّ مُشْتَرَكٌ أَصْلًا ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُتَسَاوِيَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْجِسْمِ كَذَلِكَ ، فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْأَعْرَاضَ مُخْتَلِفَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْمُخْتَلِفَاتِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي وَصْفِ عَارِضٍ , وَهُوَ كَوْنُهَا عَارِضَةً لِمَوْضُوعَاتِهَا ، فَكَذَا مِنَ الْجَائِزِ أَنْ تَكُونَ مَاهِيَّاتُ الْأَجْسَامِ مُخْتَلِفَةً فِي تَمَامِ مَاهِيَّاتِهَا , ثُمَّ إِنَّهَا تَكُونُ مُتَسَاوِيَةً فِي وَصْفٍ عَارِضٍ ، وَهُوَ كَوْنُهَا مُشَارًا إِلَيْهَا بِالْحِسِّ وَحَاصِلَةً فِي الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ ، وَمَوْصُوفَةً بِالْأَبْعَادِ الثَّلَاثَةِ ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا دَافِعَ لَهُ أَصْلًا .
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْجِسْمِ إِلَى اللَّطِيفِ وَالْكَثِيفِ فَهِيَ أَيْضًا مَنْقُوضَةٌ بِالْعَرَضِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْعَرَضِ إِلَى الْكَيْفِ وَالْكَمِّ وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ مِنَ الذَّاتِيِّ فَضْلًا
[ ص: 133 ] عَنِ التَّسَاوِي فِي كُلِّ الذَّاتِيَّاتِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ هَهُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي كَوْنِ الْأَجْسَامِ مُخْتَلِفَةً وَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الِاحْتِمَالِ ، فَحِينَئِذٍ قَالُوا : لَا يَمْتَنِعُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ الْهَوَائِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْهَوَاءِ فِي الْمَاهِيَّةِ , ثُمَّ تَكُونَ تِلْكَ الْمَاهِيَّةُ تَقْتَضِي لِذَاتِهَا عِلْمًا مَخْصُوصًا وَقُدْرَةً مَخْصُوصَةً عَلَى أَفْعَالٍ عَجِيبَةٍ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْقَوْلُ بِالْجِنِّ ظَاهِرَ الِاحْتِمَالِ , وَتَكُونُ قُدْرَتُهَا عَلَى التَّشَكُّلِ بِالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ ظَاهِرَةَ الِاحْتِمَالِ .
الْقَوْلُ الثَّانِي : قَوْلُ مَنْ قَالَ : الْأَجْسَامُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ أَيْضًا فِرْقَتَانِ .
الْفِرْقَةُ الْأُولَى : الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ , وَهَذَا قَوْلُ
الْأَشْعَرِيِّ وَجُمْهُورِ أَتْبَاعِهِ , وَأَدِلَّتُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ ظَاهِرَةٌ قَوِيَّةٌ ، قَالُوا : وَلَوْ كَانَتِ الْبِنْيَةُ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ : إِنَّ الْحَيَاةَ الْوَاحِدَةَ قَامَتْ بِمَجْمُوعِ الْأَجْزَاءِ أَوْ يُقَالَ : قَامَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ حَيَاةٌ عَلَى حِدَةٍ ، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ ؛ لِأَنَّ حُلُولَ الْعَرَضِ الْوَاحِدِ فِي الْمَحَالِّ الْكَثِيرَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً غَيْرُ مَعْقُولٍ ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي مِنْهَا تَأَلَّفَ الْجِسْمُ مُتَسَاوِيَةٌ , وَالْحَيَاةَ الْقَائِمَةَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُسَاوِيَةٌ لِلْحَيَاةِ الْقَائِمَةِ بِالْجُزْءِ الْآخَرِ , وَحُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ ، فَلَوِ افْتَقَرَ قِيَامُ الْحَيَاةِ بِهَذَا الْجُزْءِ إِلَى قِيَامِ تِلْكَ الْحَيَاةِ بِذَلِكَ الْجُزْءِ لَحَصَلَ هَذَا الِافْتِقَارُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ , فَيَلْزَمُ وُقُوعُ الدَّوْرِ وَهُوَ مُحَالٌ ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الِافْتِقَارُ فَحِينَئِذٍ ثَبَتَ أَنَّ قِيَامَ الْحَيَاةِ بِهَذَا الْجُزْءِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ بِذَلِكَ الْجُزْءِ الثَّانِي ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا التَّوَقُّفُ ثَبَتَ أَنَّهُ يَصِحُّ كَوْنُ الْجُزْءِ الْوَاحِدِ مَوْصُوفًا بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ , وَبَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْبِنْيَةَ شَرْطٌ ، قَالُوا : وَأَمَّا دَلِيلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْبِنْيَةِ فَلَيْسَ إِلَّا الِاسْتِقْرَاءَ , وَهُوَ أَنَّا رَأَيْنَا أَنَّهُ مَتَى فَسَدَتِ الْبِنْيَةُ بَطَلَتِ الْحَيَاةُ وَمَتَى لَمْ تَفْسُدْ بَقِيَتِ الْحَيَاةُ , فَوَجَبَ تَوَقُّفُ الْحَيَاةِ عَلَى حُصُولِ الْبِنْيَةِ ، إِلَّا أَنَّ هَذَا رَكِيكٌ ، فَإِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِالْوُجُوبِ ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حَالَ مَنْ لَمْ يُشَاهَدْ كَحَالِ مَا شُوهِدَ ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُنْكِرُ خَرْقَ الْعَادَاتِ ، أَمَّا مَنْ يُجَوِّزُهَا فَهَذَا لَا يَتَمَشَّى عَلَى مَذْهَبِهِ , وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي جَعْلِ بَعْضِهَا عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ , وَجَعْلِ بَعْضِهَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْحَيَاةِ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ عِلْمًا بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَقُدْرَةً عَلَى أَشْيَاءَ شَاقَّةٍ شَدِيدَةٍ ، وَعِنْدَ هَذَا ظَهَرَ الْقَوْلُ بِإِمْكَانِ وُجُودِ الْجِنِّ ، سَوَاءٌ كَانَتْ أَجْسَامُهُمْ لَطِيفَةً أَوْ كَثِيفَةً ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ أَجَزَاؤُهُمْ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً .
الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبِنْيَةَ شَرْطُ الْحَيَاةِ , وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ صَلَابَةٍ فِي الْبِنْيَةِ حَتَّى يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ فَهَهُنَا مَسْأَلَةٌ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْئِيُّ حَاضِرًا وَالْمَوَانِعُ مُرْتَفِعَةً وَالشَّرَائِطُ مِنَ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ حَاصِلَةً ، وَتَكُونَ الْحَاسَّةُ سَلِيمَةً ، ثُمَّ مَعَ هَذَا لَا يَحْصُلُ الْإِدْرَاكُ ، أَوْ يَكُونَ هَذَا مُمْتَنِعًا عَقْلًا ؟ أَمَّا
الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ فَقَدْ جَوَّزُوهُ ، وَأَمَّا
الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ حَكَمُوا بِامْتِنَاعِهِ عَقْلًا ،
وَالْأَشْعَرِيُّ احْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِوُجُوهٍ عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ ؛ أَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَأَمْرَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّا نَرَى الْكَبِيرَ مِنَ الْبُعْدِ صَغِيرًا , وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّا نَرَى بَعْضَ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْبَعِيدِ دُونَ الْبَعْضِ مَعَ أَنَّ نِسْبَةَ الْحَاسَّةِ وَجَمِيعَ الشَّرَائِطِ إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمَرْئِيَّةِ كَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَجْزَاءِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ , فَعَلِمْنَا أَنَّ مَعَ حُصُولِ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ وَحُضُورِ الْمَرْئِيِّ وَحُصُولِ الشَّرَائِطِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ لَا يَكُونُ الْإِدْرَاكُ وَاجِبًا .
الثَّانِي : أَنَّ الْجِسْمَ الْكَبِيرَ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا مَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَأَلِّفَةِ ، فَإِذَا رَأَيْنَا ذَلِكَ الْجِسْمَ الْكَبِيرَ عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الْبُعْدِ فَقَدْ رَأَيْنَا تِلْكَ الْأَجْزَاءَ ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ هَذَا الْجُزْءِ مَشْرُوطَةً بِرُؤْيَةِ ذَلِكَ الْجُزْءِ الْآخَرِ
[ ص: 134 ] أَوْ لَا تَكُونَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يَلْزَمُ الدَّوْرُ ؛ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ مُتَسَاوِيَةٌ فَلَوِ افْتَقَرَتْ رُؤْيَةُ هَذَا الْجُزْءِ إِلَى رُؤْيَةِ ذَلِكَ الْجُزْءِ لَافْتَقَرَتْ أَيْضًا رُؤْيَةُ ذَلِكَ الْجُزْءِ إِلَى رُؤْيَةِ هَذَا الْجُزْءِ , فَيَقَعُ الدَّوْرُ ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الِافْتِقَارُ فَحِينَئِذٍ رُؤْيَةُ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْمَسَافَةِ تَكُونُ مُمْكِنَةً ، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ ذَلِكَ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ لَوْ حَصَلَ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ سَائِرُ الْجَوَاهِرِ فَإِنَّهُ لَا يُرَى ، فَعَلِمْنَا أَنَّ حُصُولَ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشَّرَائِطِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بَلْ جَائِزًا ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ عَوَّلُوا عَلَى أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَجَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا طَبْلَاتٌ وَبُوقَاتٌ وَلَا نَرَاهَا وَلَا نَسْمَعُهَا , فَإِذَا عَارَضْنَاهُمْ بِسَائِرِ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ وَقُلْنَا لَهُمْ فَجَوَّزُوا أَنْ يُقَالَ : انْقَلَبَتْ مِيَاهُ الْبِحَارِ ذَهَبًا وَفِضَّةً ، وَالْجِبَالُ يَاقُوتًا وَزَبَرْجَدًا ، أَوْ حَصَلَتْ فِي السَّمَاءِ حَالُ مَا غَمَضَتِ الْعَيْنُ أَلْفَ شَمْسٍ وَقَمَرٍ ، ثُمَّ لَمَّا فُتِحَتِ الْعَيْنُ أَعْدَمَهَا اللَّهُ ، عَجَزُوا عَنِ الْفَرْقِ .
وَالسَّبَبُ فِي هَذَا التَّشَوُّشِ أَنَّ هَؤُلَاءِ
الْمُعْتَزِلَةَ نَظَرُوا إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُطَّرِدَةِ فِي مَنَاهِجِ الْعَادَاتِ ، فَوَهِمُوا أَنَّ بَعْضَهَا وَاجِبَةٌ ، وَبَعْضَهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، وَلَمْ يَجِدُوا قَانُونًا مُسْتَقِيمًا ، وَمَأْخَذًا سَلِيمًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ ، فَتَشَوَّشَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْكُلِّ ، فَيُحْكَمَ عَلَى الْكُلِّ بِالْوُجُوبِ ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ ، أَوْ عَلَى الْكُلِّ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ ، كَمَا هُوَ قَوْلُ
الْأَشْعَرِيِّ .
فَأَمَّا التَّحَكُّمُ فِي الْفَرْقِ فَهُوَ بَعِيدٌ ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ جَوَازُ الْقَوْلِ بِالْجِنِّ ، فَإِنَّ أَجْسَامَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيفَةً قَوِيَّةً إِلَّا أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ لَا تَرَاهَا ، وَإِنْ كَانُوا حَاضِرِينَ هَذَا عَلَى قَوْلِ
الْأَشْعَرِيِّ فَهَذَا هُوَ تَفْصِيلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ ، وَأَنَا مُتَعَجِّبٌ مِنْ هَؤُلَاءِ
الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ كَيْفَ يُصَدِّقُونَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِثْبَاتِ الْمَلَكِ وَالْجِنِّ مَعَ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29728_28734الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْمَلَائِكَةِ قُوَّةً عَظِيمَةً عَلَى الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ ، وَالْجِنُّ أَيْضًا كَذَلِكَ ، وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا فِي الْأَعْضَاءِ الْكَثِيفَةِ الصُّلْبَةِ ، فَإِذًا يَجِبُ فِي الْمَلَكِ وَالْجِنِّ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ
nindex.php?page=treesubj&link=29655_29747الْمَلَائِكَةَ حَاضِرُونَ عِنْدَنَا أَبَدًا ، وَهُمُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ وَالْحَفَظَةُ ، وَيَحْضُرُونَ أَيْضًا عِنْدَ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ ، وَقَدْ كَانُوا يَحْضُرُونَ عِنْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْقَوْمِ مَا كَانَ يَرَاهُمْ ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ الْجَالِسُونَ عِنْدَ مَنْ يَكُونُ فِي النَّزْعِ لَا يَرَوْنَ أَحَدًا ، فَإِنْ وَجَبَتْ رُؤْيَةُ الْكَثِيفِ عِنْدَ الْحُضُورِ فَلِمَ لَا نَرَاهَا ؟ وَإِنْ لَمْ تَجِبِ الرُّؤْيَةُ فَقَدْ بَطَلَ مَذْهَبُهُمْ ، وَإِنْ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِالْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ مَعَ عَدَمِ الْكَثَافَةِ وَالصَّلَابَةِ فَقَدْ بَطَلَ قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْبِنْيَةَ شَرْطُ الْحَيَاةِ ، وَإِنْ قَالُوا : إِنَّهَا أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ وَحَيَّةٌ ، وَلَكِنَّهَا لِلَطَافَتِهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ ، فَهَذَا إِنْكَارٌ لِصَرِيحِ الْقُرْآنِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَحَالُهُمْ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَلَكِ وَالْجِنِّ مَعَ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ عَجِيبٌ ، وَلَيْتَهُمْ ذَكَرُوا عَلَى صِحَّةِ مَذَاهِبِهِمْ شُبْهَةً مُخَيَّلَةً فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ مُبِينَةٍ ، فَهَذَا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الدَّقَائِقِ وَالْمُشْكِلَاتِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .