الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الأول مما حكوه : قوله تعالى : ( فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) أي قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله : ( فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ) [الأحقاف : 29] ، ( قرآنا عجبا ) أي خارجا عن حد أشكاله ونظائره ، و ( عجبا ) مصدر يوضع موضع العجيب ولا شك أنه أبلغ من العجيب ، ( يهدي إلى الرشد ) أي إلى الصواب ، وقيل : إلى التوحيد ( فآمنا به ) أي بالقرآن, ويمكن أن يكون المراد فآمنا بالرشد الذي في القرآن وهو التوحيد ( ولن نشرك بربنا أحدا ) أي ولن نعود إلى ما كنا [ ص: 137 ] عليه من الإشراك به, وهذا يدل على أن أولئك الجن كانوا من المشركين .

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الثاني : مما ذكره الجن أنهم كما نفوا عن أنفسهم الشرك نزهوا ربهم عن الصاحبة والولد . فقالوا : ( وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في الجد قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : الجد في اللغة العظمة يقال : جد فلان أي عظم ومنه الحديث : "كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد فينا" أي جد قدره وعظم ؛ لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها, والولد للتكثر به والاستئناس ، وهذه من سمات الحدوث وهو سبحانه منزه عن كل نقص .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : الجد الغنى ومنه الحديث : "لا ينفع ذا الجد منك الجد" قال أبو عبيدة : أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه ، وكذلك الحديث الآخر "قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء, وإذا أصحاب الجد محبوسون" يعني أصحاب الغنى في الدنيا ، فيكون المعنى وأنه تعالى غني عن الاحتياج إلى الصاحبة والاستئناس بالولد .

                                                                                                                                                                                                                                            وعندي فيه قول ثالث وهو أن جد الإنسان أصله الذي منه وجوده, فجعل الجد مجازا عن الأصل ، فقوله تعالى : ( جد ربنا ) معناه تعالى أصل ربنا وأصله حقيقته المخصوصة التي لنفس تلك الحقيقة من حيث إنها هي تكون واجبة الوجود, فيصير المعنى أن حقيقته المخصوصة متعالية عن جميع جهات التعلق بالغير ؛ لأن الواجب لذاته يجب أن يكون واجب الوجود من جميع جهاته ، وما كان كذلك استحال أن يكون له صاحبة وولد .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قرئ جدا ربنا بالنصب على التمييز وجد ربنا بالكسر أي صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد ، وكأن هؤلاء الجن لما سمعوا القرآن تنبهوا لفساد ما عليه كفرة الجن, فرجعوا أولا عن الشرك وثانيا عن دين النصارى .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية