الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك . فقال بعضهم : معنى ذلك : ليس البر الصلاة وحدها ، ولكن البر الخصال التي أبينها لكم .

2513 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس قوله : " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل [ ص: 337 ] المشرق والمغرب " ، يعني : الصلاة . يقول : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا ، فهذا منذ تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض ، وحد الحدود ، فأمر الله بالفرائض والعمل بها .

2514 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " ، ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله .

2515 - حدثني القاسم قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

2516 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج عن ابن عباس قال : هذه الآية نزلت بالمدينة : " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " ، يعني : الصلاة . يقول : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك . قال ابن جريج وقال مجاهد : " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " ، يعني السجود ، ولكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله .

2517 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو تميلة عن عبيد بن سليمان عن الضحاك بن مزاحم أنه قال فيها ، قال يقول : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك . وهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ، فأنزل الله الفرائض وحد الحدود بالمدينة ، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها .

وقال آخرون : عنى الله بذلك اليهود والنصارى . وذلك أن اليهود تصلي فتوجه قبل المغرب والنصارى تصلي فتوجه قبل المشرق ، فأنزل الله فيهم هذه الآية ، يخبرهم فيها أن البر غير العمل الذي يعملونه ، ولكنه ما بيناه في هذه الآية

ذكر من قال ذلك : [ ص: 338 ]

2518 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة قال : كانت اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق ، فنزلت : " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " .

2519 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر " ، ذكر لنا أن رجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر فأنزل الله هذه الآية . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل فتلاها عليه . وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يرجى له ويطمع له في خير ، فأنزل الله : " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " . وكانت اليهود توجهت قبل المغرب والنصارى قبل المشرق - " ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر " الآية .

2520 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع بن أنس قال : كانت اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق ، فنزلت : " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " .

قال أبو جعفر : وأولى هذين القولين بتأويل الآية ، القول الذي قاله قتادة والربيع بن أنس : أن يكون عنى بقوله : " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " اليهود والنصارى . لأن الآيات قبلها مضت بتوبيخهم ولومهم ، والخبر عنهم وعما أعد لهم من أليم العذاب . وهذا في سياق ما قبلها ، إذ كان الأمر كذلك ، - " ليس البر " ، - أيها اليهود والنصارى أن يولي بعضكم وجهه قبل المشرق وبعضكم قبل المغرب ، " ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب " الآية . [ ص: 339 ]

فإن قال قائل : فكيف قيل : " ولكن البر من آمن بالله " ، وقد علمت أن " البر " فعل ، و"من" اسم ، فكيف يكون الفعل هو الإنسان؟

قيل : إن معنى ذلك غير ما توهمته ، وإنما معناه : ولكن البر بر من آمن بالله واليوم الآخر ، فوضع " من " موضع الفعل ، اكتفاء بدلالته ، ودلالة صلته التي هي له صفة ، من الفعل المحذوف ، كما تفعله العرب ، فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي بها مشهورة ، فتقول : " الجود حاتم ، والشجاعة عنترة " ، و" إنما الجود حاتم والشجاعة عنترة " ، ومعناها : الجود جود حاتم فتستغني بذكر " حاتم " إذ كان معروفا بالجود ، من إعادة ذكر " الجود " بعد الذي قد ذكرته ، فتضعه موضع " جوده " ، لدلالة الكلام على ما حذفته ، استغناء بما ذكرته عما لم تذكره . كما قيل : ( واسأل القرية التي كنا فيها ) [ سورة يوسف : 82 ] والمعنى : أهل القرية ، وكما قال الشاعر ، وهو ذو الخرق الطهوي :


حسبت بغام راحلتي عناقا! وما هي ويب غيرك بالعناق



يريد : بغام عناق ، أو صوت [ عناق ] ، كما يقال : " حسبت صياحي أخاك " ، يعني به : حسبت صياحي صياح أخيك .

وقد يجوز أن يكون معنى الكلام : ولكن البار من آمن بالله ، فيكون " البر " مصدرا وضع موضع الاسم .

التالي السابق


الخدمات العلمية