الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              وأما أن للمكلف القصد إلى المسبب فكما إذا قيل لك : لم تكتسب ؟ قلت : لأقيم صلبي ، وأقوم في حياة نفسي وأهلي أو لغير ذلك من المصالح التي توجد عن السبب ، فهذا القصد إذا قارن التسبب صحيح ; لأنه التفات إلى العادات الجارية ، وقد قال تعالى : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله [ الجاثية : 12 ] .

              وقال : ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله [ الروم : 23 ] .

              وقال : فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] .

              [ ص: 318 ] فمن حيث عبر بالقصد إلى الفضل عن القصد إلى السبب الذي هو الاكتساب ، وسيق مساق الامتنان من غير إنكار ، أشعر بصحة ذلك القصد ، وهذا جار في أمور الآخرة كما هو جار في أمور الدنيا ; كقوله تعالى : ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات [ الطلاق : 11 ] ، وأشباه ذلك مما يؤذن بصحة القصد إلى المسبب بالسبب .

              وأيضا ; فإنما محصول هذا أن يبتغى ما يهيئ الله له بهذا السبب ، فهو راجع إلى الاعتماد على الله واللجأ إليه في أن يرزقه مسببا يقوم به أمره ، ويصلح به حاله ، وهذا لا نكير فيه شرعا ، وذلك أن المعلوم من الشريعة أنه شرعت لمصالح العباد ، فالتكليف كله إما لدرء مفسدة ، وإما لجلب مصلحة أو لهما معا ، فالداخل تحته مقتض لما وضعت له ، فلا مخالفة في ذلك لقصد الشارع ، والمحظور إنما هو أن يقصد خلاف ما قصده ، مع أن هذا القصد لا ينبني عليه عمل غير مقصود للشارع ، ولا يلزم منه عقد مخالف ، فالفعل موافق ، والقصد [ ص: 319 ] موافق ، فالمجموع موافق .

              فإن قيل : هل يستتب هذان الوجهان في جميع الأحكام العادية ، والعبادية أم لا ؟ فإن الذي يظهر لبادئ الرأي أن قصد المسببات لازم في العاديات ، لظهور وجوه المصالح فيها بخلاف العبادات ; فإنها مبنية على عدم معقولية المعنى ; فهنالك يستتب عدم الالتفات إلى المسببات لأن المعاني المعلل بها راجعة إلى جنس المصالح فيها أو المفاسد ، وهي ظاهرة في العاديات ، وغير ظاهرة في العباديات ، وإذا كان كذلك ; فالالتفات إلى المسببات ، والقصد إليها معتبر في العاديات ، ولا سيما في المجتهد ; فإن المجتهد إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إليها ، ولولا ذلك لم يستقم له إجراء الأحكام على وفق المصالح إلا بنص أو إجماع فيبطل القياس ، وذلك غير صحيح ; فلا بد من الالتفات إلى المعاني التي شرعت لها الأحكام ، والمعاني هي مسببات الأحكام ، أما العباديات فلما كان الغالب عليها فقد ظهور المعاني الخاصة بها ، والرجوع إلى مقتضى النصوص فيها ، [ ص: 320 ] كان ترك الالتفات أجرى على مقصود الشارع فيها ، والأمران بالنسبة إلى المقلد سواء ، في أن حقه أن لا يلتفت إلى المسببات إلا فيما كان من مدركاته ومعلوماته العادية في التصرفات الشرعية .

              فالجواب أن الأمرين في الالتفات وعدمه سواء ، وذلك أن المجتهد إذا نظر في علة الحكم عدى الحكم بها إلى محل هي فيه ; لتقع المصلحة المشروع لها الحكم ، هذا نظره خاصة ، ويبقى قصده إلى حصولها بالعمل أو عدم القصد مسكوتا عنه بالنسبة إليه ، فتارة يقصد إذا كان هو العامل وتارة لا يقصد ، وفي الوجهين لا يفوته في اجتهاده أمر كالمقلد سواء ، فإذا سمع قوله عليه الصلاة والسلام : لا يقضي القاضي وهو غضبان متفق عليه نظر إلى علة منع القضاء ، فرآه الغضب ، وحكمته تشويش الذهن عن استيفاء الحجاج بين الخصوم ، فألحق بالغضب الجوع والشبع المفرطين ، والوجع وغير ذلك مما فيه تشويش الذهن ، فإذا وجد في نفسه شيئا من ذلك ، وكان قاضيا امتنع من القضاء بمقتضى النهي ; فإن قصد بالانتهاء مجرد النهي فقط من غير التفات إلى الحكمة التي لأجلها نهي عن القضاء ; حصل مقصود الشارع ، وإن لم يقصده القاضي ، وإن قصد به ما ظهر قصد الشارع إليه من مفسدة عدم استيفاء الحجاج ; حصل مقصود الشارع أيضا فاستوى قصد القاضي إلى المسبب وعدم قصده ، وهكذا المقلد فيما فهم حكمته من الأعمال ، وما لم يفهم ; فهو [ ص: 321 ] كالعبادات بالنسبة إلى الجميع ، وقد علم أن العبادات وضعت لمصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة على الجملة ، وإن لم يعلم ذلك على التفصيل ، ويصح القصد إلى مسبباتها الدنيوية والأخروية على الجملة ; فالقصد إليها أو عدم القصد كما تقدم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية