الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
معنى الفقه

وأقول: الفقه في اللغة: الفهم. وفي الشرع: فهم الكتاب والسنة على وفق مراد الله ومراد رسوله، لا هذا الفقه الذي اصطلحوا عليه اليوم؛ فإنه في الحقيقة رأي بحت، أو اجتهاد من الفضلاء.

وكان لفظ «الفقيه» يطلق في الصدر الأول على الزاهد التارك للدنيا، المؤثر للآخرة عليها.

ثم تبدل استعماله، وصار يطلق على من قرأ مسائل النكاح، والبيع، والشراء، والعتاق، والأملاك، وليس هذا من المراد في شيء.

ويزيده إيضاحا ما في حديث أبي هريرة مرفوعا: «خصلتان لا تجتمعان في منافق: 1- حسن سمت. 2- ولا فقه في الدين» رواه الترمذي.

قال في الترجمة: المراد به: الفهم والفطانة في درك أحكام الدين.

والمقصود بذلك: ترغيب المسلمين، وتحريضهم على أن يكونوا جامعين لهاتين الصفتين، وتغليظ وتشديد عليهم؛ لئلا يقعوا في خلاف ذلك.

والمراد بحسن السمت: سلوك طريق الخير، فإن «السمت» معناه: الطريق المستقيم، ثم استعير لهيئات الصلحاء، ومسالك الخير.

وبالجملة: الفقيه كل الفقيه: من كان شديدا على الشياطين، وأما من كانت الشياطين عليه مسلطين، وهو يسعى كل يوم في إماتة السنن، وإحياء البدع، من [ ص: 224 ] تقليدات الرجال، والديانة بالآراء، فهو ليس بفقيه، بل هو سفيه، وأي سفيه! والدليل على أن المراد بالفقه في هذا الحديث وما ورد في معناه من الأخبار الأخرى: فهم الكتاب والسنة لا غير: أن الفقه المصطلح عليه اليوم لم تكن له رائحة في الصدر الأول، ولم يكن يعرف أحد من سلف هذه الأمة إياه.

وإنما حدث هذا بعد القرون الفاضلة المشهود لها بالخير، ولما حدث نهى أئمة الفقه من المجتهدين الأربع وغيرهم عن تقليدهم، وتقليد غيرهم فيه، كما هو مصرح في كتب مقلديهم.

ومن العجائب: أن مقلدي الأئمة يوجبون تقليدهم عليهم، ثم لا يقلدونهم في هذا القول، بل يخالفونهم في ذلك خلافا أشد من خلاف المتبعين للمقلدين.

غلطت، بل هؤلاء يخالفون أئمتهم في كثير من المسائل؛ كمسألة سماع الموتى ونحوها.

وكم من مسائل لغيرهم، من الشافعية، والمالكية أخذوها وهم يدعون أنهم على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله.

وإذا صنع غيرهم من أهل الاتباع مثل صنيعهم في هذا الأمر، وأنكر بعض مسائل فقههم مما قال به إمامهم، أو لم يقل، بل قال أحد من مقلديه، قاموا عليه، ورموه بكل حجر ومدر. وهذا من العجب العجاب. وما أحسن ما قيل:

«رمتني بدائها وانسلت».

وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من خرج في طلب العلم، فهو في سبيل الله حتى يرجع» أي إلى بيته ومسكنه وبلده.

ولا يقال: إنه إذا رجع انقطع الثواب؛ لأن ثواب الكون في سبيل الله تم، وثواب التعليم والتكميل والنشر بالتأليف والتصنيف باق إلى زمن الاشتغال بذلك.

والحديث يدل على جواز السفر، وندب الرحلة في طلب العلم؛ ولهذا تجد المحدثين قد أكثروا في الرحلات والطلبات، وجاهدوا في جمع الروايات [ ص: 225 ] والدرايات، فكانوا أحق بهذا الحديث وأهله. رواه الترمذي، والدارمي.

وفي حديث سخبرة الأزدي مرفوعا: «من طلب العلم كان كفارة لما مضى» أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث ضعيف الإسناد، وأبو داود الراوي يضعف، ورواه الدارمي أيضا.

وهذا غير أبي داود صاحب السنن؛ فإنه من كبار أهل الحديث.

قال في الترجمة: أكثر ما يراد في أمثال هذه المواضع مغفرة صغائر الذنوب؛ كما في الوضوء، والصلاة، ونحوهما، إلا في الحج، فقد ورد أنه يهدم الكبائر أيضا.

قال: ولعله يكون في طلب العلم أيضا كذلك؛ أي: كفارة الكبائر.

وفي حديث أبي سعيد الخدري يرفعه: «لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة» رواه الترمذي.

معناه: يبقى في طلب العلم إلى آخر عمره، فيدخل ببركته الجنة.

وفيه بشارة لطالب العلم بأن يذهب من الدنيا على الإيمان إن شاء الله تعالى.

وقد بقي بعض أهل الله لدرك هذه البشارة والسعادة في طلب العلم وتحصيله إلى آخر العمر، مع حصول المرتبة الأعلى من العلم، رضي الله عنهم.

وحيث إن دائرة العلم وسيعة جدا، فمن اشتغل بالتعليم والتصنيف كان طالبا للعلم ومكملا له. هكذا في الترجمة.

التالي السابق


الخدمات العلمية