الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
التحذير من طلب العلم لغير الله

نعم، من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار.

هكذا ورد مرفوعا في حديث كعب بن مالك. قال في «الترجمة» : أي يبحث مع أهل العلم، ويسوي نفسه بهم، ويباهي [ ص: 226 ] بذلك ويفاخر، أو يجادل مع الجهلاء وينازعهم، ليوقعهم في الشكوك، ويحصل المال من الناس، ويصرفه في أمور الدنيا وشهوات النفس، فإنه يدخل النار؛ أي: إن كان طلب العلم لمجرد هذه الأغراض.

وأما إن شابه رياء وداعية النفس، بحكم الطبيعة والجبلة، فهو معذور، والاحتراز عنها ليس في مقدوره، فلا يكون حكمه هذا الحكم، كما وقعت الإشارة إلى ذلك في حديث أبي هريرة الآتي قريبا.

قيل: إن الله تعالى إذا أراد أن يحدث أمرا شريفا عزيزا متضمنا للحكمة، يقع من الآدمي داعية النفس من غير اختيار منه؛ ليحصل ذلك الأمر بلا تكلف وتردد منه، كما خلق في وجود الولد داعية الشهوة في الرجل والمرأة، فيميل أحدهما إلى الآخر، ويرغب فيه من دون اختيار، فكذلك يخلق داعية النفس في وجود العلم؛ ليوجد بالقوة الباعثة، فإن نصر حال العبد توفيق الله وعنايته، يخرج العبد من هذه الدواعي كما قيل: تعلمنا العلم لغير الله، فأبى العلم إلا أن يكون لله. انتهى.

قلت: هذا الأثر في تعلم علم الدين، لا في تحصيل الفضل، فإنه يأبى غالبا إلا أن يكون لغير الله.

قد طال في هذا العصر من فضلاء الزمن لا من علمائه مجاراة العلماء ومماراة السفهاء، وصرف وجوه الناس إليهم لكسب الشهرة في عامة الناس، وجرى قلمهم برد العلماء والقدح فيهم إلى غاية لا يأتي عليها الحصر، حتى جمع من ترهاتهم البسابس ما لا يحمله إلا بعير أو عير.

وحيث إن الحديث مشعر بما سيقع في الأمة بين من تسمى بالعلم كان علما من أعلام النبوة.

فإن عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- معصوم عن مثل هذه المجاراة والمماراة على اليقين. والله أعلم.

وفي حديث أبي هريرة يرفعه: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، [ ص: 227 ] لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» يعني ريحها. رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه.

قال في الترجمة: فيه تنبيه على أن ما ينبغي أن يراد به وجه الله لا ينبغي أن يجعل في طلب متاع الدنيا المحقرة.

يار مفروش بدنياكه بسي سودنكرد آنكه يوسف بزرنا سره بفروخته بود

أو المراد: إن كان علما، لكن لا من علوم الدين، وجعله وسيلة إلى الدنيا وكسبها، فلا يكون مذموما، بعد أن كان تعلمه مباحا، ولم يكن من العلوم البدعية المحرمة والمكروهة، كان طالبا للعلم، يجد ويجتهد في تحصيل المعمى، والعروض، والقافية، وأقسام الشعر، ويقول: أحب أن أجعل هذه العلوم وسيلة إلى الدنيا لا علوم الدين. وقد نقل الطيبي مثل هذا الكلام عن بعض الزهاد والعلماء.

وبالجملة: الذم متوجه إلى من لا يتعلم العلم إلا لإصابة الدنيا وعرضها، وهو المحروم من السعادة؛ لحصره طلب العلم في ذلك.

وأما إن كان مشوبا، مخلوطا به، وله نية العمل، وترويج الدين، فله الأجر، على قدرها.

نعم، يحرم من مرتبة الكمال، وإليه الرمز في حديث: «إنما الأعمال» ونفي العرف عنه مبالغة في حرمانه من دخول الجنة مع المقربين المخلصين، الذين لا يرون العذاب أصلا، ويدخلون الجنة في أول وهلة. وقد ورد مثل هذا التأويل في أحاديث أخرى.

قال بعضهم: إذا جاؤوا بالعباد في المحشر، يصل العرف الطيب من الجنان إلى مشامهم؛ استراحة لهم من هموم الموقف ووحشته، وتقوية لقلوبهم؛ وهذا الرجل يحرم منه، ويصير في حكم المزكوم، بغلبة بخار المعصية وحب الدنيا. انتهي.

التالي السابق


الخدمات العلمية