الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويوالي بين أعضائه فإن فرق تفريقا يسيرا لم يضر ، لأنه لا يمكن الاحتراز منه ، وإن كان تفريقا كثيرا وهو بقدر ما يجف الماء على العضو في زمان معتدل ففيه قولان ، قال في القديم : لا يجزيه لأنها عبادة يبطلها الحدث فأبطلها التفريق كالصلاة ، وقال في الجديد : يجزيه لأنها عبادة لا يبطلها التفريق القليل فلا يبطلها التفريق الكثير كتفرقة الزكاة ، فإذا قلنا : إنه يجوز فهل يلزمه استئناف النية ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) يلزمه لأنها انقطعت بطول الزمان ( والثاني ) لا يستأنف لأنه لم يقطع حكم النية فلم يلزمه الاستئناف ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قوله : ( عبادة يبطلها الحدث ) فيه احتراز من الحج والزكاة ، وقوله : ( عبادة لا يبطلها التفريق القليل ) احتراز من الصلاة فإنه يبطلها التفريق اليسير كما يبطلها الكثير . قال القاضي أبو الطيب في تعليقه : تفريق الصلاة هو الخروج منها ، وقال إمام الحرمين : ذكر الأئمة أن الموالاة شرط في الصلاة ولا يبين ذلك إلا في تطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين قصدا ، فتفريق الصلاة هو تطويل ركن قصير . قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : التفريق المبطل للصلاة هو أن يسلم ناسيا وعليه ركعة مثلا ويذكر بعد طول الفصل فتبطل صلاته بلا خلاف ، ولا سبب لبطلانها إلا التفريق بين أجزاء الصلاة لأنه بعد السلام غير مصل ، وإنما لم يبطل إذا لم يطل الفصل لأنه وإن لم يكن من الصلاة فهو في محل العفو كما عفي عن الفعل القليل وإن لم يكن من الصلاة . ويقال : زمان وزمن لغتان مشهورتان . وقول المصنف رحمه الله : لا يبطلها التفريق القليل إلى آخره ينتقض بالأذان فإنه يبطله التفريق الفاحش دون القليل . أما حكم المسألة : فالتفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضر بإجماع المسلمين ، نقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما . وأما [ ص: 479 ] التفريق الكثير ففيه قولان مشهوران الصحيح منهما باتفاق الأصحاب أنه لا يضر وهو نصه في الجديد ودليلهما ما ذكره المصنف رحمه الله ثم قال العراقيون : القولان جاريان سواء فرق بعذر أم بغيره .

                                      وقال جمهور الخراسانيين القولان في تفريق بلا عذر ، أما التفريق بعذر فلا يضر قولا واحدا ، وهذه الطريقة هي الصحيحة عند الفوراني وإمام الحرمين والسرخسي والغزالي في البسيط . وقطع به القاضي حسين والبغوي والمتولي وآخرون قال الرافعي : هي قول أكثر الأصحاب ، وحكى عن نص الشافعي ما يدل عليه قال المسعودي : ولأن الشافعي جوز في القديم تفريق الصلاة بالعذر إذا سبقه الحدث فيتوضأ ويبني فالطهارة أولى . ثم من الأعذار أن يفرغ ماؤه فيذهب لتحصيل غيره أو خاف من شيء فهرب ونحو ذلك . وهل النسيان عذر ؟ فيه وجهان مشهوران ، قال الرافعي : أصحهما نعم ، قال إمام الحرمين والغزالي في البسيط : ولا خلاف أنه لو نسي فطول الأركان القصيرة في الصلاة لم تبطل صلاته قال : والفرق أنه مصل في جميع حالاته وتارك الوضوء ليس مشتغلا بعبادة .

                                      وفي ضبط التفريق الكثير والقليل أربعة أوجه الصحيح الذي قطع به المصنف والجمهور أنه إذا مضى بين العضوين زمن يجف فيه العضو المغسول مع اعتدال الزمان وحال الشخص فهو تفريق كثير ، وإلا فقليل ، ولا اعتبار بتأخر الجفاف بسبب شدة البرد ولا بتسارعه لشدة الحر ، ولا بحال المبرود والمحموم . ويعتبر التفريق من آخر الفعل المأتي به من أفعال الوضوء حتى لو غسل وجهه ويديه ثم اشتغل لحظة ثم مسح رأسه بعد جفاف الوجه وقبل جفاف اليد فتفريق قليل ، وإذا غسل ثلاثا ثلاثا فالاعتبار من الغسلة الأخيرة ، هكذا صرح بمعنى هذه الجملة الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمحاملي والروياني والرافعي وآخرون . وأهمل المصنف اعتبار اعتدال حال الشخص ولا بد منه كما صرح به الأصحاب ، ومتى كان في غير حال الاعتدال قدر بحال الاعتدال وكذا في التيمم يقدر لو كان ماء .

                                      ( والوجه الثاني ) التفريق الكثير هو الطويل المتفاحش حكاه صاحب البيان ، وحكاه الشيخ أبو حامد عن حكاية شيخه [ ص: 480 ] أبي القاسم الداركي عن نص الشافعي في الإملاء ، قال أبو حامد : ولم أره في الإملاء ولا حكاه غيره من أصحابنا .

                                      ( والوجه الثالث ) يؤخذ التفريق الكثير والقليل من العادة .

                                      ( والرابع ) أن الكثير قدر يمكن فيه تمام الطهارة حكاهما الرافعي ، هذا حكم تفريق الوضوء ، وأما الغسل والتيمم ففيهما ثلاثة طرق ( أحدها ) أنهما كالوضوء على ما سبق من الخلاف والتفصيل وبهذا قطع جمهور الأصحاب في الطرق كلها ( والثاني ) لا يضر تفريقهما قطعا ( والثالث ) الغسل كالوضوء وأما التيمم فيبطل قطعا وحكاه الماوردي عن جمهور الأصحاب وقال صاحب المستظهري : هذا ليس بشيء بل الصواب أنهما كالوضوء والله أعلم .

                                      وإذا جوزنا التفريق الكثير فإن كانت النية الأولى مستصحبة فبنى على وضوئه وهو ذاكر لها أجزأه ، وإن كانت قد عزبت فهل يجب تجديد النية فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف بدليلهما وهما مشهوران ، اختلف في أصحهما فصحح الفوراني والبغوي الوجوب ، وقطع به الشيخ أبو حامد وصحح الأكثرون عدم الوجوب منهم أبو علي البندنيجي وابن الصباغ والغزالي والروياني والشيخ نصر المقدسي والشاشي وصاحب العدة والرافعي وآخرون قال القاضي حسين : إذا قلنا يجب تجديد النية فجددها وبنى ففي صحة وضوئه وجهان بناء على تفريق النية على الأعضاء وفيه وجهان سبقا في آخر باب نية الوضوء ولم يذكر الجمهور هذا البناء . أما إذا فرق تفريقا يسيرا وبنى فلا يجب تجديد النية بلا خلاف ، قال الشيخ أبو محمد في الفروق : إذا فرق تفريقا كثيرا لعذر جاز البناء بلا نية قطعا وفرق بينه وبين عدم العذر على أحد الوجهين بأن المتفرق بالعذر له حكم المجموع والتفريق بلا عذر كالتوهين للنية والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في تفريق الوضوء قد ذكرنا أن التفريق اليسير لا يضر بالإجماع ، وأما الكثير فالصحيح في مذهبنا أنه لا يضر وبه قال عمر بن الخطاب وابنه وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والحسن البصري والنخعي وسفيان الثوري وأحمد في رواية داود وابن المنذر وقالت طائفة : يضر التفريق وتجب الموالاة . حكاه ابن المنذر عن [ ص: 481 ] قتادة وربيعة والأوزاعي والليث وأحمد قال : واختلف فيه عن مالك رضي الله عنه وحكى الشيخ أبو حامد عن مالك والليث : إن فرق بعذر جاز وإلا فلا . واحتج من أوجب الموالاة بما رواه ؟ أبو داود والبيهقي عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم { رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة } وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه { أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ارجع فأحسن وضوءك ، فرجع ثم صلى } رواه مسلم وعن عمر أيضا موقوفا عليه أنه قال لمن فعل ذلك : أعد وضوءك ، وفي رواية : اغسل ما تركت .

                                      واحتج لمن يوجب الموالاة بأن الله تعالى أمر بغسل الأعضاء ولم يوجب موالاة ، وبالأثر الصحيح الذي رواه مالك عن نافع " أن ابن عمر توضأ في السوق فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ثم دعي إلى جنازة فدخل المسجد ثم مسح على خفيه بعد ما جف وضوءه وصلى " قال البيهقي : هذا صحيح عن ابن عمر مشهور بهذا اللفظ وهذا دليل حسن فإن ابن عمر فعله بحضرة حاضري الجنازة ولم ينكر عليه . والجواب عن حديث خالد أنه ضعيف الإسناد . وحديث عمر لا دلالة له فيه . والأثر عن عمر روايتان إحداهما للاستحباب والأخرى للجواز والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية