الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويستحب أن لا ينشف أعضاءه من بلل الوضوء لما روت ميمونة رضي الله عنها قالت : { أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلا من الجنابة فأتيته بالمنديل فرده } ولأنه أثر عبادة فكان تركه أولى . فإن تنشف جاز لما روى قيس بن سعد رضي الله عنهما قال : { أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعنا له غسلا فاغتسل ثم أتيناه بملحفة ورسية فالتحف بها فكأني أنظر إلى أثر الورس على عكنه } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما حديث ميمونة رضي الله عنها فمتفق على صحته رواه البخاري ومسلم بمعناه وقد تقدم قريبا ، وحديث قيس رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه والنسائي في كتابه ( عمل اليوم والليلة ) وابن ماجه في كتاب الطهارة وكتاب اللباس والبيهقي في الغسل وغيرهم وإسناده مختلف فهو ضعيف .

                                      وروي في التنشيف أحاديث ضعيفة منها حديث { معاذ رضي الله عنه رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه } رواه الترمذي وقال غريب وإسناده ضعيف . وعن عائشة رضي الله عنها قالت { كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خرقة يتنشف بها بعد الوضوء } رواه الترمذي وقال : ليس إسناده بالقائم وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { توضأ فقلب جبة صوف كانت عليه فمسح بها وجهه } رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف قال الترمذي : ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء . [ ص: 485 ] وقول ميمونة : أدنيت أي : قربت ، وقولها : غسلا هو بضم الغين أي ما يغتسل به ، ولفظة الغسل مثلثة فهي بكسر الغين اسم لما يغسل به الرأس من سدر وخطمي ونحوهما ، وبفتحها مصدر وهو اسم للفعل بمعنى الاغتسال وبضمها مشترك بين الفعل والماء ، فحصل في الفعل لغتان : الفتح والضم . وقد زعم جماعة ممن صنف في ألفاظ الفقه أن الفعل لا يقال إلا بالفتح وغلطوا الفقهاء في قولهم باب غسل الجنابة والجمعة ونحوه بالضم ، وهذا الإنكار غلط بل هما لغتان كما ذكرنا . والملحفة والمنديل بكسر ميمهما فالملحفة مشتقة من الالتحاف وهو الاشتمال ، والمنديل من الندل وهو بفتح النون وإسكان الدال وهو الوسخ لأنه يندل به ، وقال ابن فارس : لعله من الندل وهو النقل ، وقوله : " ورسية " هكذا هو في المهذب بواو مفتوحة ثم راء ساكنة ثم سين مكسورة ثم ياء مشددة وكذا وجد بخط المصنف وكذا هو في رواية البيهقي ، والمشهور في كتب اللغة ملحفة وريسة بكسر الراء وبعدها ياء ساكنة ثم سين مفتوحة ثم هاء ومعناه مصبوغة بالورس وهو ثمر أصفر لشجر يكون باليمن يصبغ به وهو معروف . وقوله على " عكنه " هو بضم العين وفتح الكاف جمع عكنة قال الأزهري قال الليث وغيره : العكن الأطواء في بطن المرأة من السمن ، وتعكن الشيء إذا ركم بعضه على بعض . وقد رأيت لبعض مصنفي ألفاظ المهذب إنكارا على المصنف ، قال قوله : " فكأني أنظر إلى أثر الورس على عكنه " زيادة ليست في الحديث وهذا الإنكار غلط منه ، بل هذه اللفظة موجودة في الحديث مصرح بها في رواية النسائي والبيهقي .

                                      وأما ميمونة راوية الحديث فهي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية كان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة ، والميمون المبارك من اليمن وهو البركة وهي خالة ابن عباس رضي الله عنهما توفيت سنة إحدى وخمسين وقيل غير ذلك ، وقد بسطت أحوالها في تهذيب الأسماء . وأما قيس فهو أبو عبد الله وقيل أبو عبد الملك وقيل أبو الفضل قيس بن سعد بن عبادة بن دليم بضم الدال المهملة وفتح اللام الأنصاري وكان قيس [ ص: 486 ] وآباؤه الثلاثة يضرب بهم المثل في الكرم ، وقيس وسعد صحابيان توفي قيس بالمدينة سنة ستين رضي الله عنه . أما حكم التنشيف ففيه طرق متباعدة للأصحاب يجمعها خمسة أوجه الصحيح منها أنه لا يكره لكن المستحب تركه ، وبهذا قطع جمهور العراقيين والقاضي حسين في تعليقه والبغوي وآخرون ، وحكاه إمام الحرمين عن الأئمة ورجحه الرافعي وغيره من المتأخرين المطلعين ( والثاني ) يكره التنشيف حكاه المتولي وغيره ( الثالث ) أنه مباح يستوي فعله وتركه ، قاله أبو علي الطبري في الإفصاح والقاضي أبو الطيب في تعليقه ( والرابع ) يستحب التنشيف لما فيه من السلامة من غبار نجس وغيره ، وحكاه الفوراني والغزالي والروياني والرافعي ( والخامس ) إن كان في الصيف كره التنشيف وإن كان في الشتاء فلا لعذر البرد حكاه الرافعي ، قال المحاملي وغيره : وليس للشافعي نص في المسألة قال أصحابنا : وسواء التنشيف في الوضوء والغسل . هذا كله إذا لم تكن حاجة إلى التنشيف لخوف برد أو التصاق بنجاسة ونحو ذلك ، فإن كان فلا كراهة قطعا ولا يقال إنه خلاف المستحب قال الماوردي : فإن كان معه من يحمل الثوب الذي يتنشف به وقف عن يمين المتطهر والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب السلف في التنشيف قد ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا أنه يستحب تركه ولا يقال التنشيف مكروه ، وحكى ابن المنذر إباحة التنشيف عن عثمان بن عفان والحسن بن علي وأنس بن مالك وبشير بن أبي مسعود والحسن البصري وابن سيرين وعلقمة والأسود ومسروق والضحاك ومالك والثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق . وحكى كراهته عن جابر بن عبد الله وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن المسيب والنخعي ومجاهد وأبي العالية وعن ابن عباس كراهته في الوضوء دون الغسل ، قال ابن المنذر : كل ذلك مباح ، ونقل المحاملي الإجماع على أنه لا يحرم وإنما الخلاف في الكراهة والله أعلم




                                      الخدمات العلمية