الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
34 ( حديث ثان لابن شهاب ، عن أبي إدريس الخولاني ) .

مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من توضأ فليستنثر ، ومن استجمر فليوتر .

التالي السابق


قال أبو عمر :

لا يصح عن مالك ، ولا عن ابن شهاب في هذا الحديث غير هذا الإسناد ، وقد وهم فيه عثمان الطرايفي ، عن مالك . أخبرنا محمد حدثنا علي بن عمر ، حدثنا أبو محمد الحسين بن أحمد بن صالح ، حدثنا عبد الله بن محمد بن ناجية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن المفضل ، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن ، حدثنا [ ص: 13 ] مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من توضأ فليستنثر ، ومن استجمر فليوتر .

قال أبو الحسن علي بن عمر : هذا وهم ، ولا يصح فيه عن مالك ولا عن الزهري غير حديث أبي إدريس الخولاني ، وقد رواه أسيد بن عاصم ، عن بشر بن عمر ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك أيضا خطأ ، والصواب ما في الموطأ .

وقد مضى القول في الاستنثار ، وحكمه ، وما للعلماء في ذلك من الأقوال في باب حديث زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن الصنابحي ، وأما الاستجمار فهو الاستطابة بالأحجار ، ومعناه إزالة الأذى من المخرج بالأحجار قال ابن الأنباري : معنى الاستجمار التمسح بالأحجار ، والجمار عند العرب : الحجارة الصغار ، وبه سميت جمار مكة قال : ومنه الحديث الذي يروى : إذا توضأت فانثر ، وإذا استجمرت فأوتر .

قال أبو عمر :

هذا اللفظ يرويه منصور ، عن هلال بن يساف ، عن سلمة بن قيس الأشجعي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن الأنباري : ومعنى الوتر عندهم أن يوتر من الجمار ، وهي الحجارة [ ص: 14 ] الصغار يقال : قد جمر الرجل يجمر تجميرا ، إذا رمى جمار مكة قال عمر بن أبي ربيعة :


فلم أر كالتجمير منظر ناظر ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى

أفلتن : يعني أهلكن ، والفلت بفتح اللام : الهلاك ، ومنه قيل : المسافر على فلت إلا ما وقى الله منه .

قال أبو عمر :

ويروى أفتن ذا هوى ، ويفتن ذا هوى ، وهذا شعر عرضت فيه قصة طريفة لعمر بن أبي ربيعة مع سليمان بن عبد الملك ، وهي حكاية عجيبة حدثنيها عبد الله بن محمد بن يوسف قال : أنبأنا العاندي قال : أنبأنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني قال : حدثنا أبو العباس أحمد بن عبد الله بن بكر بن عمار الثقفي البغدادي قال : حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الكوفي ، عن مصعب الزبيري ، عن الضحاك بن عثمان أن سليمان بن عبد الملك حج في خلافته فأرسل إلى عمر بن أبي ربيعة فأتاه فقال له : أنت القائل :


وكم من قتيل لا يباء به دم ومن غلق رهنا إذا ضمه منى
ومن مالئ عينيه من شيء غيره إذا راح نحو الجمرة البيض كالدما
يسحبن أذيال المروط بأسوق ( خوال إذا أولين أعجازها روا ؟ )
أوانس يسلبن الحليم فؤاده فيا طول ما شوق ويا حسن مجتلا
فلم أر كالتجمير منظر ناظر ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى

[ ص: 15 ] ( قال : نعم قال : لا جرم ، والله لا تشهد الحج مع الناس العام ، وأخرجه إلى الطائف ) .

وذكر هذا الخبر محمد بن خلف أنبأنا وكيع قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا مصعب بن عبد الله قال : حج سليمان بن عبد الملك ، وهو خليفة فأرسل إلى عمر بن أبي ربيعة فقال له : ألست القائل :


فكم من قتيل لا يباء به دم ومن غلق رهنا إذا ضمه منى

فذكر الأبيات ، والخبر سواء إلا أنه قال :


يسجن أذيال المروط بأسوق ( خدال وأعجاز مئاكمها روى )

، ولم يذكر الضحاك بن عثمان .

وعرضت له فيه أيضا مع عمر بن عبد العزيز قصة يليق بأهل الدين الوقوف عليها ، ذكر الزبير بن بكار قال : حدثني محمد بن كناسة ، ‌‌عن أبي بكر بن عياش أن عمر بن أبي ربيعة قال هذا الشعر في أم عمر بنت مروان في خبر ذكره قال الزبير : وحدثني مصعب بن عثمان أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة لم يكن له هم إلا عمر بن أبي ربيعة ، والأحوص ، فكتب إلى عامله بالمدينة : إني قد عرفت عمر ، والأحوص بالخبث والشر ، فإذا أتاك كتابي هذا فاشددهما ، واحملهما إلي ، فلما أتاه الكتاب حملهما إليه ، فأقبل على عمر ثم قال : هيه ؟


فلم أر كالتجمير منظر ناظر ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى
ومن مالئ عينيه من شيء غيره إذا راح نحو الجمرة البيض كالدما

[ ص: 16 ] أما والله لو اهتممت بحجك لم تنظر إلى شيء غيرك ، فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون ثم أمر بنفيه فقال : يا أمير المؤمنين أوخير من ذلك ؟ قال : ما هو ؟ قال : أعاهد الله عز وجل على أن لا أعود لمثل هذا الشعر ، ولا أذكر النساء في شعر أبدا ، وأجدد توبة على يديك قال : أوتفعل ؟ قال : نعم ، فعاهد الله على توبته ، وخلاه ثم دعا الأحوص فقال : هيه


الله بيني وبين قيمها يهرب مني بها وأتبع

بل الله بين قيمها ، وبينك ثم أمر بنفيه ، فكلمه فيه رجال من الأنصار فأبى ، وقال : والله لا أرده ما دام لي سلطان ; فإنه فاسق مجاهر ، والتجمير أيضا في لسان العرب : أن يرمى بالجند في ثغر من ثغور المسلمين ثم لا يؤذن لهم في الرجوع قال حميد الأرقط :


فاليوم لا ظلم ولا تجمير ولا لغاز إن غزا تجمير

وقال بعض الغزاة المجمرين :


معاوي إما أن تجمر أهلنا إلينا وإما أن نؤب معاويا
أجمرتنا إجمار كسرى جنوده ومنيتنا حتى مللنا الأمانيا

واختلف العلماء في إزالة الأذى من المخرج بالماء أو بالأحجار ، هل هو فرض واجب ، أم سنة مسنونة ؟ فذهب مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما إلى أن ذلك ليس بواجب فرضا ، وإنه سنة لا ينبغي تركها ، وتاركهما عمدا مسيء ، فإن صلى كذلك فلا إعادة [ ص: 17 ] عليه ، إلا أن مالكا يستحب له الإعادة في الوقت ، وعلى ذلك أصحابه ، والإعادة في الوقت ليست بواجبة عنده ، ولا عند كل من قال كقوله ، وإنما هو استدراك لما فاته من السنة في الوقت ، ولو وجب في السنن أن تعاد بعد الوقت لكانت كالفرائض في وجوبها .

وقال الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، والطبري : الاستنجاء واجب لا تجزئ صلاة من صلى دون أن يستنجي بالأحجار أو بالماء ، وموضع المخرج مخصوص عند الجميع بالأحجار ، وأما سائر البدن والثياب فلا مدخل للأحجار فيها ، ويجوز عند مالك ، وأبي حنيفة ، وأصحابه الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار إذا ذهب النجس ; لأن الوتر يقع على الواحد فما فوقه ، والوتر عندهم مستحب ، وليس بواجب ، وإذا كان الاستنجاء عندهم ليس بواجب ، فالوتر فيه أحرى بأن لا يكون واجبا ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك : من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج .

وحدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا عيسى بن يونس ، عن ثور بن يزيد ، عن الحصين الحرابي ، عن أبي سعيد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من [ ص: 18 ] استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج الحديث .

وقال الشافعي : لا يجوز أن يقتصر على أقل من ثلاثة أحجار ، وهو قول أحمد بن حنبل ، وإلى هذا ذهب أبو الفرج المالكي ، ومن الحجة لهذا القول : ما حدثناه محمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أنبأنا إسحاق بن إبراهيم قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن سلمان قال : قال له رجل : إن صاحبكم ليعلمكم حتى الخراءة قال : أجل نهانا أن نستقبل القبلة لغائط ، أو بول ، أو نستنجي بأيماننا ، ونكتفي بأقل من ثلاثة أحجار قال : وأخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن محمد بن عجلان قال : أخبرنا القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أنا لكم مثل الوالد أعلمكم ، فإذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فلا يستقبل القبلة ، ولا يستدبرها ، ولا يستنجي بيمينه ، وكان يأمر بثلاثة أحجار ، وينهى ، عن الروث ، والرمة .

وقال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم : كل ما قام مقام الأحجار من سائر الأشياء الطاهرة ، فجائز أن يستنجى به ما لم يكن مأكولا .

وقال الطبري : كل طاهر وكل نجس أزال النجس أجزأ ، وقال داود ، وأهل الظاهر : لا يجوز الاستنجاء بغير الأحجار الطاهرة ، [ ص: 19 ] والأحجار عندهم مخصوصة بتطهير المخرج كما أن المخرج مخصوص بأن يطهر بالأحجار فيجزئ فيه عن الماء دون ما عداه .

وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما : إن استنجى بعظم أجزأه ، وبئس ما صنع .

وقال الشافعي : لا يجزئ ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى ، عن الروث ، والرمة ، ونهى أن يستنجى بعظم ، والرمة : العظام ، فلما طابق النهي لم يجز .

وذكر أبو داود ، عن أحمد بن حنبل قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا زكرياء بن إسحاق حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتمسح بعظم أو بعر .

ولا فرق عند مالك ، وأبي حنيفة ، وأصحابهما في مخرج البول والغائط بين المعتادات ، وغير المعتادات أن الحجارة تجزئ فيها في السبيلين جميعا ، وهو المشهور من قول الشافعي .

وقد روي عن الشافعي : أنه لا يجزئ فيما عدا الغائط والبول إلا الماء قال : وكذلك ما عدا المخرج وما حوله مما يمكن التحفظ منه فإنه ، لا يجزئ فيه الأحجار ، ولا يجزئ فيه إلا الماء ، وسيأتي القول في المذي ، وحكم غسل الذكر منه في باب أبي النضر إن شاء الله .

[ ص: 20 ] وعند أصحاب مالك أن ما حول المخرج مما لا بد منه في الأغلب والعادة لا يجزئ فيه إلا الماء ، وهكذا حكى ابن خويز منداد عنهم .

وقد قالت طائفة : إن الأحجار تجزئ في مثل ذلك ، لأن مالا يمكن التحفظ منه من الشرج حكمه حكم المخرج ، قال : واختلف أصحاب الشافعي فقالوا مرة : يجزئ فيه مثل قولنا ، وأما أبو حنيفة ، وأصحابه ، فعلى أصلهم أن النجاسة إذا لم تكن رطبة تزول بكل ما أزال عينها وأذهبها غير الماء ، وقدر الدرهم معفو عنه أصلا عند جميع العراقيين .

وقال داود : النجاسة لا يزيلها إلا الماء ، وإذا زالت بأي وجه زالت أجزأ ، ولا يحد قدر الدرهم .

قال مالك : تجوز الصلاة بالاستنجاء بالأحجار والماء أحب إليه ، ويغسل ما هنالك فيما يستقبل .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : يستنجي بثلاثة أحجار ، فإن لم تنق زاد حتى ينقى ، وإن أنقاه حجر واحد أجزأه ، وكذلك غسله بالماء إن أنقاه بغسلة واحدة ، وذلك في المخرج ، وما عدا المخرج فإنما يغسل بالماء ، وهذا كله قول مالك ، وأصحابه .

وقال الأوزاعي : يجوز ثلاثة أحجار ، والماء أطهر .

[ ص: 21 ] وقال الشافعي : يجوز بالأحجار ما لم يعد المخرج ، فإن عدا المخرج لم يجز إلا الماء ، والمهاجرون كانوا لا يستنجون بالماء ، وهو قول سعيد بن المسيب .

وروي عن حذيفة أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال : إذا لا تزال يدي في نتن .

وأما الأنصار فكانوا يتبعون الأحجار بالماء ، وأثنى الله عز وجل بذلك على أهل قباء .

والماء عند فقهاء الأمصار أطهر ، وأطيب ، والأحجار رخصة تجزئ ، ومن العلماء من جعل الاستنجاء واجبا ، وسائر العلماء يستحبون الوتر ، وقد روى ثور بن يزيد الشامي ، عن الحصين الجواني ، عن أبي معبد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من اكتحل فليوتر ، من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج ، ومن استجمر فليوتر ، ومن فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج ، وذكر الحديث .

وهو حديث ليس بالقوي ; لأن إسناده ليس بالقائم ، فيه مجهولون ذكره أبو داود ، عن إبراهيم بن موسى الرازي ، عن عيسى بن يونس ، عن ثور ، وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن [ ص: 22 ] قال : حدثنا محمد بن بكر التمار قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن العلاء قال : حدثنا معاوية بن هشام ، عن يونس بن الحارث ، عن إبراهيم بن أبي ميمونة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال : وكانوا يستنجون بالماء .




الخدمات العلمية