الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        3083 حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني مالك بن أنس عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        الحديث السادس عشر حديث أبي سعيد في تفاضل أهل الجنة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن صفوان بن سليم ) عند مسلم في رواية ابن وهب عن مالك أخبرني صفوان ، وهذا من صحيح أحاديث مالك التي ليست في الموطإ ، ووهم أيوب بن سويد فرواه عن مالك عن زيد بن أسلم بدل صفوان ذكره الدارقطني في " الغرائب ، وكأنه دخل له إسناد حديث في إسناد حديث ، فإن رواية مالك عن زيد [ ص: 377 ] بدل صفوان ، فهذا السند وقفت عليه في حديث آخر سيأتي في أواخر الرقاق وفي التوحيد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أبي سعيد ) في رواية فليح عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أخرجه الترمذي وصححه وابن خزيمة ، ونقل الدارقطني في " الغرائب " عن الذهلي أنه قال : لست أدفع حديث فليح ، يجوز أن يكون عطاء بن يسار حدث به عن أبي سعيد ، وعن أبي هريرة انتهى . وقد رواه أيوب بن سويد عن مالك فقال عن أبي حازم عن سهل بن سعد ذكره الدارقطني في " الغرائب ، وقال إنه وهم فيه أيضا ، قلت ولكنه له أصل من حديث سهل بن سعد عند مسلم ويأتي أيضا في " باب صفة أهل الجنة والنار " في الرقاق من حديث سهل أيضا لكنه مختصر عند الشيخين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يتراءون ) [1] في رواية لمسلم " يرون " والمعنى أن أهل الجنة تتفاوت منازلهم بحسب درجاتهم في الفضل ، حتى إن أهل الدرجات العلا ليراهم من هو أسفل منهم كالنجوم . وقد بين ذلك في الحديث بقوله : " لتفاضل ما بينهم " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الدري ) هو النجم الشديد الإضاءة ، وقال الفراء : هو النجم العظيم المقدار ، وهو بضم المهملة وكسر الراء المشددة بعدها تحتانية ثقيلة وقد تسكن وبعدها همزة ومد وقد يكسر أوله على الحالين فتلك أربع لغات ، ثم قيل إن المعنى مختلف ، فبالتشديد كأنه منسوب إلى الدر لبياضه وضيائه ، وبالهمز كأنه مأخوذ من درأ أي دفع لاندفاعه عند طلوعه . ونقل ابن الجوزي عن الكسائي تثليث الدال قال : فبالضم نسبة إلى الدر وبالكسر الجاري وبالفتح اللامع .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الغابر ) كذا للأكثر وفي رواية الموطإ الغاير بالتحتانية بدل الموحدة ، قال عياض كأنه الداخل في الغروب . وفي رواية الترمذي " الغارب " وفي رواية الأصيلي بالمهملة والزاي ، قال عياض : معناه الذي يبعد للغروب ، وقيل : معناه الغائب ، ولكن لا يحسن هنا لأن المراد أن بعده عن الأرض كبعد غرف الجنة عن ربضها في رأي العين ، والرواية الأولى هي المشهورة . ومعنى الغابر هنا الذاهب ، وقد فسره في الحديث بقوله : " من المشرق إلى المغرب " والمراد بالأفق السماء وفي رواية مسلم من الأفق من المشرق أو المغرب ، قال القرطبي من الأولى لابتداء الغاية أو هي للظرفية ، و " من الثانية مبينة لها ، وقد قيل إنها ترد لانتهاء الغاية أيضا قال : وهو خروج عن أصلها وليس معروفا عند أكثر النحويين ، قال : ووقع في نسخ البخاري " إلى المشرق " وهو أوضح ، ووقع في رواية سهل بن سهل عند مسلم كما تراءون الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي واستشكله ابن التين وقال : إنما تغور الكواكب في المغرب خاصة فكيف وقع ذكر المشرق ؟ وهذا مشكل على رواية الغاير بالتحتانية ، وأما بالموحدة فالغابر يطلق على الماضي والباقي فلا إشكال .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال بلى ) قال القرطبي : بلى حرف جواب وتصديق ، والسياق يقتضي أن يكون الجواب بالإضراب عن الأول وإيجاب الثاني ، فلعلها كانت بل فغيرت ببلى ، وقوله : " رجال " خبر مبتدإ محذوف [ ص: 378 ] تقديره وهم رجال ، أي تلك المنازل منازل رجال آمنوا . قلت : حكى ابن التين أن في رواية أبي ذر " بل " بدل بلى ، ويمكن توجيه " بلى " بأن التقدير نعم هي منازل الأنبياء بإيجاب الله تعالى لهم ذلك . ولكن قد يتفضل الله تعالى على غيرهم بالوصول إلى تلك المنازل . وقال ابن التين يحتمل أن تكون بلى جواب النفي في قولهم لا يبلغها غيرهم ، وكأنه قال : بلى يبلغها رجال غيرهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وصدقوا المرسلين ) أي حق تصديقهم وإلا لكان كل من آمن بالله وصدق رسله وصل إلى تلك الدرجة وليس كذلك ، ويحتمل أن يكون التنكير في قوله رجال يشير إلى ناس مخصوصين موصوفين بالصفة المذكورة ، ولا يلزم أن يكون كل من وصف بها كذلك لاحتمال أن يكون لمن بلغ تلك المنازل صفة أخرى ، وكأنه سكت عن الصفة التي اقتضت لهم ذلك ، والسر فيه أنه قد يبلغها من له عمل مخصوص ، ومن لا عمل له كان بلوغها إنما هو برحمة الله تعالى . وقد وقع في رواية الترمذي من وجه آخر عن أبي سعيد " وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما " ، وروى الترمذي أيضا عن علي مرفوعا إن في الجنة لغرفا ترى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها . فقال أعرابي لمن هي يا رسول الله قال : هي لمن ألان الكلام ، وأدام الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام ، وقال ابن التين : قيل إن المعنى أنهم يبلغون درجات الأنبياء . وقال الداودي يعني أنهم يبلغون هذه المنازل التي وصف ، وأما منازل الأنبياء فإنها فوق ذلك . قلت : وقع في حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي قال بلى والذي نفسي بيده ، وأقوام آمنوا بالله ورسوله هكذا فيه بزيادة الواو العاطفة ففسد تأويل الداودي ، والله المستعان . ويحتمل أن يقال : إن الغرف المذكورة لهذه الأمة ، وأما من دونهم فهم الموحدون من غيرهم ، أو أصحاب الغرف الذين دخلوا الجنة من أول وهلة ، ومن دونهم من دخل بالشفاعة . ويؤيد الذي قبله قوله في صفتهم هم الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين وتصديق جميع المرسلين إنما يتحقق لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بخلاف من قبلهم من الأمم فإنهم وإن كان فيهم من صدق بمن سيجيء من بعده من الرسل فهو بطريق التوقع لا بطريق الواقع ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية