الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          3108 حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني حدثنا خالد بن الحارث أخبرنا شعبة أخبرني عدي بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ذكر أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن جبريل صلى الله عليه وسلم جعل يدس في في فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه الله قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( ذكر أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ) يعني رواه أحدهما مرفوعا ولم يرفعه الآخر وضميرهما راجع إلى عدي بن ثابت وعطاء بن السائب ( في في فرعون ) أي في فمه ، أو خشية أن يرحمه " أو " للشك من الراوي .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن غريب صحيح ) وأخرجه أبو داود الطيالسي وابن جرير ، كلاهما من طريق شعبة عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس .

                                                                                                          تنبيه : اعلم أن الخازن ذكر في تفسيره هاهنا فصلين لدفع الإشكال الذي يرد على حديث ابن عباس المذكور ، فلنا أن نذكرهما . قال : فصل في الكلام على هذا الحديث ، لأنه في الظاهر مشكل فيحتاج إلى بيان وإيضاح ، فنقول : قد ورد هذا الحديث على طريقين مختلفين عن ابن عباس ، ففي الطريق الأول : عن ابن زيد بن جدعان ، وهو وإن كان قد ضعفه يحيى بن معين وغيره ، فإنه كان شيخا نبيلا صدوقا ، ولكنه كان سيئ الحفظ ويغلط ، وقد احتمل الناس حديثه . إنما يخشى من حديثه إذا لم يتابع عليه ، أو خالفه فيه الثقات وكلاهما منتف في هذا الحديث ; لأن في الطريق الآخر شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير . وهذا الحديث على شرط البخاري ، ورواه أيضا شعبة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير وعطاء بن السائب ثقة قد أخرج له مسلم ، فهو على شرط مسلم ، وإن كان عطاء قد تكلم فيه من قبل اختلاطه فإنما يخاف ما انفرد به أو خولف فيه ، وكلاهما منتف ، فقد علم بهذا أن لهذا الحديث أصلا وأن رواته [ ص: 418 ] ثقات ليس فيهم متهم ، وإن كان فيهم من هو سيئ الحفظ ، فقد تابعه عليه غيره . فإن قلت : ففي الحديث الثاني شك في رفعه لأنه قال فيه : ذكر أحدهما عن النبي ، صلى الله عليه وسلم . قلت : ليس بشك في رفعه إنما هو جزم بأن أحد الرجلين رفعه وشك شعبة في تعيينه ، هل عطاء بن السائب أو عدي بن ثابت وكلاهما ثقة ، فإذا رفعه أحدهما وشك في تعيينه ، لم يكن هذا علة في الحديث .

                                                                                                          فصل : ووجه إشكاله ما اعترض به الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره فقال : هل يصح أن جبريل أخذ يملأ فمه بالطين لئلا يتوب غضبا عليه؟ .

                                                                                                          والجواب : الأقرب أنه لا يصح لأن في تلك الحالة إما أن يقال التكليف هل كان ثابتا أم لا ، فإن كان ثابتا لا يجوز لجبريل أن يمنعه من التوبة ، بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى كل طاعة ، وإن كان التكليف زائلا عن فرعون في ذلك الوقت ، فحينئذ لا يبقى لهذا الذي نسب إلى جبريل فائدة .

                                                                                                          وأيضا لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر ، والرضا بالكفر كفر وأيضا فكيف يليق بجلال الله أن يأمر جبريل بأن يمنعه من الإيمان ، ولو قيل إن جبريل فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله ، فهذا يبطله قول جبريل وما نتنزل إلا بأمر ربك فهذا وجه الإشكال الذي أورده الإمام على هذا الحديث في كلام أكثر من هذا .

                                                                                                          والجواب عن هذا الاعتراض : أن الحديث قد ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا اعتراض عليه لأحد ، وأما قول الإمام : إن التكليف هل كان ثابتا في تلك الحالة أم لا ؟ فإن كان ثابتا لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة ، فإن هذا القول لا يستقيم على أصل المثبتين للقدر القائلين بخلق الأفعال لله ، وأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء " وهذا قول أهل السنة المثبتين للقدر فإنهم يقولون : إن الله يحول بين الكافر والإيمان ، ويدل على ذلك قوله تعالى : واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وقوله تعالى : وقالوا قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم . وقال تعالى : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة فأخبر الله تعالى أنه قلب أفئدتهم مثل تركهم الإيمان أول مرة . وهكذا فعل بفرعون منعه من الإيمان جزاء على تركه الإيمان أولا فدس الطين في فم فرعون من جنس الطبع والختم على القلب ومنع الإيمان وصون الكافر عنه وذلك جزاء على كفره السابق . وهذا قول طائفة من المثبتين للقدر القائلين بخلق الأفعال لله ومن المنكرين لخلق الأفعال من اعترف أيضا أن الله سبحانه وتعالى يفعل هذا عقوبة للعبد على كفره السابق ، فيحسن منه أن يضله ويطبع على قلبه ويمنعه من الإيمان .

                                                                                                          [ ص: 419 ] فأما قصة جبريل عليه السلام : فإنها من هذا الباب ، فإن غاية ما يقال فيه ، إن الله سبحانه وتعالى منع فرعون من الإيمان وحال بينه وبينه عقوبة له على كفره السابق ورده للإيمان لما جاءه ، وأما فعل جبريل من دس الطين فإنما فعل ذلك بأمر الله لا من تلقاء نفسه . فأما قول الإمام لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب عليه أن يعينه عليها وعلى كل طاعة . هذا إذا كان تكليف جبريل كتكليفنا ، يجب عليه ما يجب علينا ، وأما إذا كان جبريل إنما يفعل ما أمره الله به ، والله سبحانه وتعالى هو الذي منع فرعون من الإيمان وجبريل منفذ لأمر الله ، فكيف لا يجوز له منع من منعه الله من التوبة ، وكيف يجب عليه إعانة من لم يعنه الله ، بل قد حكم عليه وأخبر عنه أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم حين لا ينفعه الإيمان .

                                                                                                          وقد يقال : إن جبريل عليه السلام إما أن يتصرف بأمر الله فلا يفعل إلا ما أمره الله به ، وإما يفعل ما يشاء من تلقاء نفسه لا بأمر الله ، وعلى هذين التقديرين فلا يجب عليه إعانة فرعون على التوبة ، ولا يحرم عليه منعه منها ; لأنه إنما يجب عليه فعل ما أمر به ، ويحرم عليه فعل ما نهي عنه والله سبحانه وتعالى لم يخبر أنه أمره بإعانة فرعون ولا حرم عليه منعه من التوبة وليست الملائكة مكلفين كتكليفنا . انتهى . وقد أطال الخازن الكلام في دفع الإشكال الذي أورده الرازي ، فعليك أن تطالع بقية كلامه .




                                                                                                          الخدمات العلمية