الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        644 - حدثنا محمد بن خزيمة قال : ثنا حجاج بن المنهال قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث يونس ، عن ابن وهب ، وحديث محمد بن علي عن سليمان بن داود ، غير أنه قال : فإذا ذهب قدرها ، فاغسلي عنك الدم ، وتوضئي وصلي . ففي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها بالوضوء مع أمره إياها بالغسل ، فذلك الوضوء هو الوضوء لكل صلاة ، فهذا معنى حديث أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وليس حماد بن سلمة عندكم في هشام بن عروة ، بدون مالك والليث وعمرو بن الحارث . فقد ثبت بما ذكرنا صحة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المستحاضة أنها تتوضأ في حال استحاضتها لوقت كل صلاة .

                                                        إلا أنه قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقدم ذكرنا له في هذا الباب .

                                                        فأردنا أن ننظر في ذلك ، لنعلم ما الذي ينبغي أن يعمل به من ذلك ؟ فكان ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رويناه في أول هذا الباب ، أنه أمر أم حبيبة رضي الله عنها بنت جحش بالغسل عند كل صلاة .

                                                        فقد ثبت نسخ ذلك ، بما قد رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفصل الثاني من هذا الباب ، في حديث ابن أبي داود عن الوهبي ، في أمر سهلة بنت سهيل ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمرها بالغسل لكل صلاة . فلما أجهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل ، وبين المغرب والعشاء بغسل ، وتغتسل للصبح غسلا .

                                                        فكان ما أمرها به من ذلك ناسخا لما كان أمرها به قبل ذلك ، من الغسل لكل صلاة .

                                                        [ ص: 104 ] فأردنا أن ننظر فيما روي في ذلك ، كيف معناه ؟ فإذا عبد الرحمن بن القاسم قد روى عن أبيه في المستحاضة التي استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختلف عن عبد الرحمن في ذلك . فروى الثوري عنه ، عن أبيه ، عن زينب بنت جحش : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك ، وأن تدع الصلاة أيام أقرائها . ورواه ابن عيينة ، عن عبد الرحمن أيضا ، عن أبيه ، ولم يذكر زينب ، إلا أنه وافق الثوري في معنى متن الحديث ، فكان ذلك على الجمع بين كل صلاتين بغسل في أيام الاستحاضة خاصة .

                                                        فثبت بذلك أن أيام الحيض كان موضعها معروفا . ثم جاء شعبة فرواه عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، كما رواه الثوري ، وابن عيينة ، غير أنه لم يذكر أيام الأقراء ، وتابعه على ذلك محمد بن إسحاق . فلما روي هذا الحديث كما ذكرنا ، فاختلفوا فيه ، كشفناه ، لنعلم من أين جاء الاختلاف ، فكان ذكر أيام الأقراء في حديث القاسم عن زينب ، وليس ذلك في حديثه ، عن عائشة ، فوجب أن يجعل روايته عن زينب غير روايته عن عائشة رضي الله عنها ، فكان حديث زينب الذي فيه ذكر الأقراء حديثا منقطعا لا يثبته أهل الخبر ؛ لأنهم لا يحتجون بالمنقطع ، وإنما جاء انقطاعه لأن زينب لم يدركها القاسم ، ولم يولد في زمنها ، لأنها توفيت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهي أول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفاة بعده . وكان حديث عائشة رضي الله عنها هو الذي ليس فيه ذكر الأقراء ، إنما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بغسل ، على ما في ذلك الحديث ، ولم يبين أي مستحاضة هي ؟ فقد وجدنا استحاضة قد تكون على معاني مختلفة . فمنها أن يكون مستحاضة قد استمر بها الدم ، وأيام حيضها معروفة لها . فسبيلها أن تدع الصلاة أيام حيضها ، ثم تغتسل وتتوضأ بعد ذلك .

                                                        ومنها أن يكون مستحاضة ، لأن دمها قد استمر بها ، فلا ينقطع عنها ، وأيام حيضها قد خفيت عليها . فسبيلها أن تغتسل لكل صلاة ، لأنها لا يأتي عليها وقت إلا احتمل أن تكون فيه حائضا أو طاهرا من حيض أو مستحاضة ، فيحتاط لها فتؤمر بالغسل .

                                                        ومنها أن تكون مستحاضة قد خفيت عليها أيام حيضها ، ودمها غير مستمر بها ، ينقطع ساعة ويعود بعد ذلك - هكذا هي في أيامها كلها .

                                                        فتكون قد أحاط علمها أنها في وقت انقطاع دمها إذا اغتسلت حينئذ غير طاهر من حيض طهرا يوجب عليها غسلا .

                                                        [ ص: 105 ] فلها أن تصلي في حالها تلك ما أرادت من الصلوات بذلك الغسل إن أمكنها ذلك . فلما وجدنا المرأة قد تكون مستحاضة بكل وجه من هذه الوجوه ، التي معانيها مختلفة ، وأحكامها مختلفة ، واسم المستحاضة يجمعها ولم نجد في حديث عائشة رضي الله عنها ذلك بيان استحاضة تلك المرأة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم لها بما ذكرنا ، أي مستحاضة هي ؟ لم يجز لنا أن نحمل ذلك على وجه من هذه الوجوه ، دون غيره ، إلا بدليل يدلنا على ذلك . فنظرنا في ذلك هل نجد فيه دليلا ؟ :

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية