الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ( 215 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يسألك أصحابك يا محمد ، أي شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به ؟ ، وعلى من ينفقونه فيما ينفقونه ويتصدقون به ؟ فقل لهم : ما أنفقتم من أموالكم وتصدقتم به ، فأنفقوه وتصدقوا به واجعلوه لآبائكم وأمهاتكم وأقربيكم ، ولليتامى منكم ، والمساكين ، وابن السبيل ، فإنكم ما تأتوا من خير وتصنعوه إليهم فإن الله به عليم ، وهو محصيه لكم حتى يوفيكم أجوركم عليه يوم القيامة ، ويثيبكم على ما أطعتموه بإحسانكم عليه . [ ص: 292 ]

و"الخير" الذي قال جل ثناؤه في قوله : " قل ما أنفقتم من خير " ، هو المال الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من النفقة منه ، فأجابهم الله عنه بما أجابهم به في هذه الآية .

وفي قوله : "ماذا" ، وجهان من الإعراب .

أحدهما : أن يكون"ماذا" بمعنى : أي شيء ؟ فيكون نصبا بقوله : "ينفقون" .

فيكون معنى الكلام حينئذ : يسألونك أي شيء ينفقون؟ ، ولا ينصب ب "يسألونك" . والآخر منهما الرفع . وللرفع في"ذلك" وجهان : أحدهما أن يكون"ذا" الذي مع"ما" بمعنى"الذي" ، فيرفع"ما" ب "ذا" و"ذا" ل "ما" ، و"ينفقون" من صلة"ذا" ، فإن العرب قد تصل"ذا" و"هذا" ، كما قال الشاعر :


عدس! ما لعباد عليك إمارة أمنت وهذا تحملين طليق!



ف "تحملين" من صلة"هذا" .

فيكون تأويل الكلام حينئذ : يسألونك ما الذي ينفقون؟

والآخر من وجهي الرفع أن تكون" ماذا " بمعنى أي شيء ، فيرفع" ماذا " ، [ ص: 293 ] وإن كان قوله : " ينفقون " واقعا عليه ، إذ كان العامل فيه ، وهو" ينفقون " ، لا يصلح تقديمه قبله ، وذلك أن الاستفهام لا يجوز تقديم الفعل فيه قبل حرف الاستفهام ، كما قال الشاعر :


ألا تسألان المرء ماذا يحاول     أنحب فيقضى أم ضلال وباطل



وكما قال الآخر :


وقالوا تعرفها المنازل من منى     وما كل من يغشى منى أنا عارف



فرفع "كل" ولم ينصبه"بعارف" ، إذ كان معنى قوله : "وما كل من يغشى منى أنا عارف" جحود معرفة من يغشى منى فصار في معنى ما أحد . وهذه الآية [ نزلت ] - فيما ذكر - قبل أن يفرض الله زكاة الأموال .

ذكر من قال ذلك :

4068 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا [ ص: 294 ] أسباط ، عن السدي : " يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " ، قال : يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة ، وإنما هي النفقة ينفقها الرجل على أهله ، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة .

4069 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم ؟ فنزلت : " يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل " ، فذلك النفقة في التطوع ، والزكاة سوى ذلك كله قال : وقال مجاهد : سألوا فأفتاهم في ذلك : " ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " وما ذكر معهما .

4070 - حدثنا محمد بن عمرو ، قال حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثني عيسى ، قال : سمعت ابن أبي نجيح في قول الله : " يسألونك ماذا ينفقون " ، قال : سألوه فأفتاهم في ذلك : " فللوالدين والأقربين " وما ذكر معهما .

4071 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد وسألته عن قوله : " قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " قال : هذا من النوافل ، قال : يقول : هم أحق بفضلك من غيرهم .

قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله السدي : من أنه لم يكن يوم نزلت هذه الآية زكاة ، وإنما كانت نفقة ينفقها الرجل على أهله ، وصدقة يتصدق بها ، ثم نسختها الزكاة قول ممكن أن يكون كما قال ، وممكن غيره . ولا دلالة في الآية على صحة ما قال ؛ لأنه ممكن أن يكون قوله : " قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " الآية ، حثا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته غير واجبة من الآباء والأمهات والأقرباء ، ومن سمي معهم في هذه الآية ، وتعريفا من [ ص: 295 ] الله عباده مواضع الفضل التي تصرف فيها النفقات ، كما قال في الآية الأخرى : ( وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة ) [ سورة البقرة : 177 ] . وهذا القول الذي قلناه في قول ابن جريج الذي حكيناه .

وقد بينا معنى المسكنة ، ومعنى ابن السبيل فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته .

التالي السابق


الخدمات العلمية