الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 518 ] باب

في ذكر رد بدعات القبور

قال تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [آل عمران: 64].

هذه الآية الشريفة فيها بيان اختيار التوحيد، وترك الشرك، وعدم اتخاذ غيره تعالى ربا. فهي بفحوى خطابها العام ترد على عباد القبور والمشاهد والضرائح والنصب والأوثان والأصنام كلهم؛ فإنهم اتخذوها أربابا لهم من دون الله، وأنزلوا بها كل حاجة لهم في الدنيا والدين، وأغمضوا عن الله الواحد رب العالمين.

وقال تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون [آل عمران: 79].

شملت هذه الآية بعمومها كل من عبد غير الله، سواء كان ذلك الغير قبر الولي، أو جدث النبي، أو مرقد الرسول، أو مزار الشيخ، أو غيرهما، مما يصدق عليه أنه دون الله. وفيه: أن العلماء والحكام والأنبياء، ليس من شأنهم أن يستعبدوا الناس، ويهدوهم إلى عبادتهم بالخضوع والتذلل لهم، أو لقبورهم، وآثارهم، إنما مرادهم أن يكون الناس كلهم أهل الله، عالمين به -سبحانه- من جهة العلم بالكتاب، ودراسته.

[ ص: 519 ] ولا ريب أن من وفقه الله بعلم الكتاب الناص على اتباع الله واتباع رسوله، لا يعبد غير الله أبدا، كائنا من كان، وفي أي منزلة من العلم والفضل والعبادة وقع، فضلا عن أن يعبد القبور ويسافر إليها، متصلا بأنواع من المفاسد والشرور، التي لا ملجأ له منها.

وقال تعالى: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [المائدة: 116-117].

فيه بيان إنكار المسيح -عليه السلام- من دعوة الناس إلى عبادته وعبادة أمه الشريفة مريم -عليها السلام- مع تنزيهه سبحانه عن الشرك، وتفويض العلم إليه سبحانه، ونفي علم الغيب عن نفسه، وعدم العلم بحالهم بعد الرفع من الدنيا إلى السماء. وهذا يدل على أن الأنبياء لم يدعو الناس إلى عبادتهم، ولم يكن ذلك من شأنهم، وإذا لم يستحق أهل النبوة للعبادة التي هي عبارة عن غاية الخضوع والتذلل لغيره، فمن هذا الذي يصح استحقاقه للعبادة من غيرهم من الأولياء، والمشايخ الأصفياء، والعلماء النبلاء؟ وإن كان في أعلى مرتبة من العلم والعبادة. وأي رتبة تفوق رتبة الأنبياء! وإذ ليس لهم علم بعد الوفاة والرفع من بين أظهرهم، فمن هذا الولي أو الشيخ والفقير، أو الصوفي، أو العالم، أو العارف، له علم بأحوالهم بعد الوفاة والممات حتى يعبده الناس وينزلوا حوائجهم إليه، ويدعوه لكشف الضر، وجلب النفع، وينذروا له، ويسافروا إلى قبره ومضجعه من أقطار شاسعة، وبلاد بعيدة، ويختاروا له الأسفار الشاقة في البر الأعظم، والبحر المحيط، ويصح ذلك منه؟

[ ص: 520 ] وقال تعالى: ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [يونس: 18].

فيه إخبار عن صنيعهم السوء، وتنصيص على عدم حصول الضرر والنفع منهم لهم، وإنكار عليهم في كونهم شافعين لهم يوم القيامة، وتنزيه له - سبحانه - عن شرك المشركين.

وقال تعالى: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل [المائدة: 77].

فيه: بيان ضلالة القوم، والنهي عن اتباعهم في الباطل، وعن الغلو في الدين. والخطاب -وإن كان لأهل الكتاب- لكن يدخل فيه كل غال في الدين، وتابع لهوى القوم الضالين.

وهذه الآيات الشريفة ليس فيها ذكر القبور وبدعاتها، ولا ذكر عابديها، لكنها بعمومها تشمل كل عبادة ودعاء لغير الله، سواء كان قبرا، أو غيره. ولا ريب أن عباد القبور في هذه الأمة، ومعتقديها، والمسافرين إليها، والناذرين لها بأنواع من نذور الحيوانات والأجناس، والآتين فيها بأقسام من البدعات والمنكرات، أكثر من غيرهم، وأعظم سوادا ممن سواهم، الذين لا يعبدون من دون الله شيئا.

فهذه الآية ترد عليهم ردا واضحا صريحا أظهر من الشمس، وأبين من الأمس، ليس على ذلك سترة ولا خفاء ولا حجاب. ولهذا استدل بها صاحب رد الإشراك على رد بدعات القبور وغيرها نظرا إلى القاعدة الأصولية المقبولة عند الفحول: أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، وأن الاعتبار بشمول المباني، لا بخصوص المعاني. [ ص: 521 ] وقد تقدم تفسير هذه الآيات في هذا الكتاب في مواطن الرد على المشركين، وإثبات التوحيد للمسلمين. وفي القرآن الكريم، والفرقان العظيم من هذا الجنس كثير طيب، ولجميعه دلالة ظاهرة على نفي عبادة غير الله تعالى.

قال في «تطهير الاعتقاد عن درن الإلحاد»: قد عرفت من هذا كله أن من اعتقد في شجر، أو حجر، أو ملك، أو جني، أو حي، أو ميت: أنه ينفع، أو يضر، أو يقرب إلى الله، أو يشفع عنده حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع والتوسل إلى الله، فإنه قد أشرك مع الله غيره، واعتقد ما لا يحل اعتقاده، كما اعتقد المشركون في الأوثان، فضلا عمن ينذر بماله وولده، لميت أو حي، يطلب بذلك ما لا يطلب إلا من الله من الحاجات، من عافية مريضه، أو قدوم غائبه، أو نيله مطلبا من المطالب، فإن هذا هو الشرك بعينه، الذي كان عليه عباد الأصنام. والنذور بالمال على الميت ونحوه، والنحر على قبره، والتوسل به، وطلب الحاجات منه، هو بعينه الشرك الذي كان يفعله الجاهلية. وإنما الجاهلية يسمون ما يعبدونه صنما، أو وثنا، وهؤلاء يسمونه وليا، أو قبرا، أو مشهدا، والأسماء لا ثمرة لها، ولا تغير المعاني ضرورة لغوية وعقلية وشرعية. فإن من شرب الخمر، وسماه ماء، فهو لم يشرب إلا خمرا. وقد ثبت في الأحاديث أنه يأتي أقوام يشربون الخمر، ويسمونها بغير اسمها. وصدق -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه قد أتى طوائف من الفسقة، يشربون الخمر، ويسمونها نبيذا.

[ ص: 522 ] وأول من سمى ما فيه غضب الله وعصيانه بالأسماء المحبوبة عند السامعين، هو إبليس اللعين، فإنه قال لأبي البشر: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى [طه: 120]، فسمى الشجرة التي نهى الله عن قربانها، غرورا له، تدليسا عليه بالاسم الذي اخترعه لها، كما يسمي إخوانه المقلدون له، الحشيشة بلقمة الراحة، وكما يسمي الظلمة ما يقبضونه من أموال عباد الله ظلما وعدوانا: أدبا، فيقولون: أدب القتل، وأدب السرقة، وأدب التهمة، بتحريف اسم الظلم إلى الأدب، كما يحرفونه في بعض المقبوضات إلى اسم النفاعة، وفي بعضها إلى اسم السياقة، وفي بعضها أدب المكاييل والموازين. وكل ذلك اسمه عند الله ظلم وعدوان، كما يعرفه من شم رائحة الكتاب والسنة. وكل ذلك مأخوذ من إبليس، حيث سمى الشجرة المنهي عنها: شجرة الخلد. فكذلك تسمية القبر: مشهدا، ومن يعتقدون فيه: وليا، وهذا لا يخرجها عن اسم الصنم والوثن، إذ هم عاملون بها معاملة المشركين بالأوثان والأصنام، ويطوفون طواف الحجاج ببيت الله الحرام، ويستلمونها استلامهم لأركان البيت، ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية من قولهم على الله ثم عليك، ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد ونحوها.

وكل قوم له رجل ينادونه. فأهل العراق والهند، يدعون عبد القادر الجيلي. وأهل التهائم لهم في كل بلد ميت يهتفون باسمه، ويقولون: يا زيلعي! يا ابن العجيل. [ ص: 523 ] وأهل مكة والطائف: يا ابن عباس . وأهل مصر: يا رفاعي. والسادة البكرية وأهل الجبال: يا أبا طير. وأهل اليمن: يا ابن علوان. وفي كل قرية أموات يهتفون بهم، وينادونهم، ويرجونهم لجلب الخير ودفع الضر. وهذا بعينه فعل المشركين في الأصنام. انتهى.

قلت: وفي الهند رجال كثيرون من هذا الوادي. منهم: السيد معين الدين الجشتي، والشيخ قطب الدين الكاكي، والسيد بديع الدين المدار، والمسعود الغازي المسالار، والشيخ نظام الدين أوليا، والسيد قطب عالم، إلى غيرهم ممن يطول بذكرهم الكتاب.

بل لا بلد من بلاده، ولا قصبة من قصباته، ولا قرية من قراه إلا وفيه قبر ولي، أو صالح، يعبدونه جهارا، ويلقون عليه أردية ورياحين، ويوقدون عليه السرج، ويسافرون إليه في شهر معين من كل سنة، زرافات ووحدانا، وينذرون له بأنواع من النذر، ويبذلونه لسدنة القبور ومجاوري المقبور. فإذا وصلوا إليه بعد مشقة من شقة بعيدة، فعلوا به من الطواف والتقبيل والاستلام، والقيام بالأدب التمام في محاذاة قبور الكرام ونحوهما، مما هو شرك بحت في الإسلام. وذلك كله بعينه صنائع المشركين الماضين، وبدائعهم التي جاء الرسل لمحوها، ولأجلها نزلت الكتب، ونهى عنها سلف هذه الأمة وأئمتها. ولكن زين لهم الشيطان أعمالهم! فاتبعوا خطواته، وأصغوا بسمع الرضاء خطباته، فدخلوا بهذه الأعمال تحت حكم الآيات المتقدمة، واستحقوا كل ما استحقه الجاهلية المنصرمة.

[ ص: 524 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية