الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : فإن رجعوا إلى ترك ما حلفوا عليه أن يفعلوه بهن من ترك جماعهن ، فجامعوهن وحنثوا في أيمانهم " فإن الله غفور " لما كان منهم من الكذب في أيمانهم بأن لا يأتوهن ثم أتوهن ، ولما سلف منهم إليهن ، من اليمين على ما لم يكن لهم أن يحلفوا عليه فحلفوا عليه " رحيم " بهم وبغيرهم من عباده المؤمنين .

وأصل " الفيء " ، الرجوع من حال إلى حال ، ومنه قوله تعالى ذكره : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) إلى قوله ( حتى تفيء إلى أمر الله ) [ سورة الحجرات : 9 ] ، يعني : حتى ترجع إلى أمر الله . ومنه قول الشاعر :


ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا

[ ص: 466 ] يقال منه : " فاء فلان يفيء فيئة " - مثل " الجيئة " و" فيأ " . و" الفيئة " المرة . فأما في الظل فإنه يقال : " فاء الظل يفيء فيوءا وفيأ " ، وقد يقال : " فيوءا " أيضا في المعنى الأول ، لأن " الفيء " في كل الأشياء بمعنى الرجوع .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أنهم اختلفوا فيما يكون به المولي فائيا .

فقال بعضهم : لا يكون فائيا إلا بالجماع .

ذكر من قال ذلك :

4509 - حدثنا علي بن سهل الرملي قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : الفيء الجماع .

4510 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو نعيم عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : الفيء الجماع .

4511 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس مثله .

4512 - حدثنا محمد بن يحيى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد عن صاحب له ، عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس مثله . [ ص: 467 ]

4513 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان عن حصين عن الشعبي عن مسروق قال : الفيء الجماع .

4514 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن حصين عن الشعبي عن مسروق مثله .

4515 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال : أخبرنا محمد بن يزيد عن إسماعيل قال : كان عامر لا يرى الفيء إلا الجماع .

4516 - حدثنا تميم بن المنتصر قال : أخبرنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا إسماعيل عن عامر بمثله .

4517 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان عن علي بن بذيمة عن سعيد بن جبير قال : الفيء الجماع .

4518 - حدثنا أبو عبد الله النشائي قال : حدثنا إسحاق الأزرق عن سفيان عن علي بن بذيمة عن سعيد بن جبير مثله .

4519 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة عن سعيد بن جبير قال : الفيء الجماع ، لا عذر له إلا أن يجامع وإن كان في سجن أو سفر - سعيد القائل .

4520 - حدثني محمد بن يحيى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد عن قتادة عن سعيد بن جبير أنه قال : لا عذر له حتى يغشى .

4521 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا حماد عن حماد وإياس عن الشعبي قال أحدهما : عن مسروق قال : الفيء الجماع وقال الآخر : عن الشعبي : الفيء الجماع . [ ص: 468 ]

4522 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب - في رجل آلى من امرأته ، ثم شغله مرض - قال : لا عذر له حتى يغشى .

4523 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثني أبي ، عن قتادة عن سعيد بن جبير - في الرجل يولي من امرأته قبل أن يدخل بها أو بعد ما دخل بها ، فيعرض له عارض يحبسه ، أو لا يجد ما يسوق : أنه إذا مضت أربعة أشهر ، أنها أحق بنفسها .

4524 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن منصور عن الحكم والشعبي قالا إذا آلى الرجل من امرأته ، ثم أراد أن يفيء ، فلا فيء إلا الجماع .

وقال آخرون : " الفيء " : المراجعة باللسان أو القلب في حال العذر ، وفي غير حال العذر الجماع .

ذكر من قال ذلك :

4525 - حدثنا محمد بن يحيى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن وعكرمة أنهما قالا إذا كان له عذر فأشهد ، فذاك له يعني في رجل آلى من امرأته فشغله مرض أو طريق ، فأشهد على مراجعة امرأته .

4526 - حدثنا محمد بن يحيى قال : أخبرنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد عن صاحب له عن الحكم قال : تذاكرنا أنا والنخعي ذاك ، فقال النخعي : إذا كان له عذر فأشهد ، فقد فاء . وقلت أنا : لا عذر له حتى يغشى . فانطلقنا إلى أبي وائل فقال : إني أرجو إذا كان له عذر فأشهد ، جاز . [ ص: 469 ]

4527 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة عن الحسن قال : إن آلى ، ثم مرض أو سجن أو سافر فراجع ، فإن له عذرا أن لا يجامع ، قال : وسمعت الزهري يقول مثل ذلك .

4528 - حدثني المثنى قال : حدثنا حبان بن موسى قال : أخبرنا ابن المبارك قال : أخبرنا أبو عوانة عن مغيرة عن إبراهيم - في النفساء يولي منها زوجها - قال : هذه في محارب ، سئل عنها أصحاب عبد الله فقالوا : إذا لم يستطع كفر عن يمينه ، وأشهد على الفيء .

4529 - حدثنا أبو السائب قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي الشعثاء قال : نزل به ضيف فآلى من امرأته فنفست ، فأراد أن يفيء ، فلم يستطع أن يقربها من أجل نفاسها ، فأتى علقمة فذكر ذلك له ، فقال : أليس قد فئت بقلبك ورضيت؟ قال : بلى! قال : فقد فئت! هي امرأتك !

4530 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن الأعمش عن إبراهيم : أن رجلا آلى من امرأته فولدت قبل أن تمضي أربعة أشهر ، أراد الفيئة فلم يستطع من أجل الدم حتى مضت أربعة أشهر ، فسأل عنها علقمة بن قيس فقال : أليس قد راجعتها في نفسك؟ قال : بلى! قال : فهي امرأتك .

4531 - حدثنا عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث قال : أخبرنا عامر [ ص: 470 ] عن الحسن قال : إذا آلى من امرأته ثم لم يقدر أن يغشاها من عذر ، قال : يشهد أنه قد فاء ، وهي امرأته .

4532 - حدثنا عمران قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا عامر عن حماد عن إبراهيم عن علقمة بمثله .

4533 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثنى أبي ، عن قتادة عن عكرمة قال : وحدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد عن قتادة عن عكرمة قال : إذا آلى من امرأته فجهد أن يغشاها فلم يستطع ، فله أن يشهد على رجعتها .

4534 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن الحسن وعكرمة : أنهما سئلا عن رجل آلى من امرأته ، فشغله أمر ، فأشهد على مراجعة امرأته ، قالا : إذا كان له عذر فذاك له .

4535 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا غندر قال : حدثنا شعبة عن الحكم قال : انطلقت أنا وإبراهيم إلى أبي الشعثاء فحدث أن رجلا من بني سعد بن همام آلى من امرأته فنفست ، فلم يستطع أن يقربها ، فسأل الأسود - أو بعض أصحاب عبد الله - فقال : إذا أشهد فهي امرأته .

4536 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا غندر قال : حدثنا شعبة عن حماد عن إبراهيم أنه قال : إن كان له عذر فأشهد ، فذلك له - يعني المولي من امرأته .

4537 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن مغيرة عن إبراهيم : أنه كان يحدث عن أبي الشعثاء عن علقمة وأصحاب عبد الله أنهم قالوا - في الرجل إذا آلى من امرأته فنفست - قالوا : إذا أشهد فهي امرأته .

4538 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن مغيرة عن حماد قال : [ ص: 471 ] إذا آلى الرجل من امرأته ثم فاء ، فليشهد على فيئه . وإذا آلى الرجل من امرأته وهو في أرض غير الأرض التي فيها امرأته ، فليشهد على فيئه . فإن أشهد وهو لا يعلم أن ذلك لا يجزيه من وقوعه عليها ، فمضت أربعة أشهر قبل أن يجامعها ، فهي امرأته . وإن علم أنه لا فيء إلا في الجماع في هذا الباب ، ففاء وأشهد على فيئه ولم يقع عليها حتى مضت أربعة أشهر ، فقد بانت منه .

4539 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني يونس قال : قال ابن شهاب : حدثني سعيد بن المسيب : أنه إذا آلى الرجل من امرأته ، قال : فإن كان به مرض ولا يستطيع أن يمسها ، أو كان مسافرا فحبس ، قال : فإذا فاء وكفر عن يمينه ، فأشهد على فيئه قبل أن تمضي أربعة أشهر ، فلا نراه إلا قد صلح له أن يمسك امرأته ، ولم يذهب من طلاقها شيء . قال : وقال ابن شهاب - في رجل يولي من امرأته ، ولم يبق لها عليه إلا تطليقة ، فيريد أن يفيء في آخر ذلك وهو مريض أو مسافر ، أو هي مريضة أو طامث أو غائبة لا يقدر على أن يبلغها ، حتى تمضي أربعة أشهر - أله في شيء من ذلك رخصة ، أن يكفر عن يمينه ولم يقدر على أن يطأ امرأته؟ قال : نرى ، والله أعلم ، إن فاء قبل الأربعة الأشهر فهي امرأته ، بعد أن يشهد على ذلك ، ويكفر عن يمينه ، وإن لم يبلغها ذلك من فيئته ، فإنه قد فاء قبل أن يكون طلاقا .

4540 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قال : الفيء الجماع . فإن هو لم يقدر على المجامعة وكانت به علة مرض أو كان غائبا أو كان محرما أو شيء له فيه عذر ، ففاء بلسانه وأشهد على الرضا ، فإن ذلك له فيء إن شاء الله .

وقال آخرون : " الفيء " المراجعة باللسان بكل حال .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 472 ]

4541 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا الضحاك بن مخلد عن سفيان عن منصور وحماد عن إبراهيم قال : الفيء أن يفيء بلسانه .

4542 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا حماد بن سلمة عن زياد الأعلم عن الحسن قال : الفيء الإشهاد .

4543 - حدثنا المثنى قال : حدثني الحجاج قال : حدثنا حماد عن زياد الأعلم عن الحسن مثله .

4544 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال : إن فاء في نفسه أجزأه ، يقول : قد فاء .

4545 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن إسماعيل بن رجاء قال : ذكروا الإيلاء عند إبراهيم فقال : أرأيت إن لم ينتشر ذكره ؟ إذا أشهد فهي امرأته .

قال أبو جعفر : وإنما اختلف المختلفون في تأويل " الفيء " على قدر اختلافهم في معنى اليمين التي تكون " إيلاء " .

فمن كان من قوله : إن الرجل لا يكون موليا من امرأته الإيلاء الذي ذكره الله في كتابه إلا بالحلف عليها أن لا يجامعها ، جعل الفيء الرجوع إلى فعل ما حلف عليه أن لا يفعله من جماعها ، وذلك الجماع في الفرج إذا قدر على ذلك وأمكنه وإذا لم يقدر عليه ولم يمكنه ، فإحداث النية أن يفعله إذا قدر عليه وأمكنه [ ص: 473 ] وإبداء ما نوى من ذلك بلسانه ليعلمه المسلمون ، في قول من قال ذلك .

وأما قول من رأى أن الفيء هو الجماع دون غيره ، فإنه لم يجعل العائق له عذرا ، ولم يجعل له مخرجا من يمينه غير الرجوع إلى ما حلف على تركه ، وهو الجماع .

وأما من كان من قوله أنه قد يكون موليا منها بالحلف على ترك كلامها ، أو على أن يسوءها أو يغيظها أو ما أشبه ذلك من الأيمان ، فإن الفيء عنده الرجوع إلى ترك ما حلف عليه أن يفعله - مما فيه من مساءتها - بالعزم على الرجوع عنه ، وإبداء ذلك بلسانه ، في كل حال عزم فيها على الفيء .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصحة في ذلك عندنا ، قول من قال : " الفيء هو الجماع " ، لأن الرجل لا يكون موليا عندنا من امرأته إلا بالحلف على ترك جماعها المدة التي ذكرنا ، للعلل التي وصفنا قبل . فإذ كان ذلك هو الإيلاء ، فالفيء الذي يبطل حكم الإيلاء عنه ، لا شك أنه غير جائز أن يكون إلا ما كان للذي آلى عليه خلافا . لأنه لما جعل حكمه إن لم يفئ إلى ما آلى على تركه ، الحكم الذي بينه الله لهم في كتابه ، كان الفيء إلى ذلك معلوم أنه فعل ما آلى على تركه إن أطاقه ، وذلك هو الجماع . غير أنه إذا حيل بينه وبين الفيء - الذي [ ص: 474 ] هو جماع - بعذر ، فغير جائز أن يكون تاركا جماعها على الحقيقة . لأن المرء إنما يكون تاركا ما له إلى فعله وتركه سبيل . فأما من لم يكن له إلى فعل أمر سبيل ، فغير كائن تاركه .

وإذ كان ذلك كذلك ، فإحداث العزم في نفسه على جماعها ، مجزئ عنه في حال العذر ، حتى يجد السبيل إلى جماعها . وإن أبدى ذلك بلسانه وأشهد على نفسه في تلك الحال بالأوبة والفيء ، كان أعجب إلي .

التالي السابق


الخدمات العلمية