الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      طبقة أخرى

      قال أبو الفتح نصر المقدسي : وأن الله مستو على عرشه ، بائن من خلقه ، كما قال في كتابه . وقال شيخ الإسلام الأنصاري ، صاحب منازل السائرين في التصوف ، قال في كتاب له : باب استواء الله على عرشه فوق السماء السابعة بائنا من خلقه من الكتاب والسنة ، فساق الحجة من الآيات والأحاديث إلى أن قال : وفي أخبار شتى أن الله - سبحانه وتعالى - في السماء السابعة على العرش بنفسه ، وهو ينظر كيف تعملون ، وعلمه وقدرته واستماعه ونظره ورحمته في كل مكان . وقال البغوي - رحمه [ ص: 202 ] الله تعالى - في قوله عز وجل : ( ثم استوى على العرش ) : قال الكلبي ومقاتل : استقر ، وقال أبو عبيدة : صعد ، وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء ، فأما أهل السنة فإنهم يقولون : الاستواء على العرش صفة لله - تعالى - بلا كيف ، يجب على الرجل الإيمان به ، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل ، ثم ذكر قول مالك المتقدم ، وقال : وروي عن سفيان الثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن المبارك وغيرهم ، من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهات : أمروها كما جاءت بلا كيف . وقالأبو الحسن الكرجي في بائيته :


      عقائدهم أن الإله بذاته على عرشه مع علمه بالغوائب     وأن استواء الرب يعقل كونه
      ويجهل فيه الكيف جهل الشهارب .

      وقال الشيخ عبد القادر الجيلي - رحمه الله تعالى - في كتاب الغنية : أما معرفة الصانع بالآيات والدلائل على وجه الاختصار فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد . . . إلى أن قال : وهو مستو على العرش ، محتو على الملك ، محيط بالأشياء ، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان ، بل يقال : إنه في السماء على العرش ، كما قال : ( الرحمن على العرش استوى ) ، وينبغي إطلاق ذلك من غير تأويل ، وكونه - تعالى - على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف .

      وقال أبو عبد الله القرطبي : وقد كان السلف الأول - رضي الله عنهم - لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله - تعالى - كما نطق كتابه وأخبرت رسله ، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أن استواءه على عرشه حقيقة ، وخص عرشه بذلك ; لأنه أعظم مخلوقاته ، وإنما جهلوا كيفية الاستواء ، فإنه لا يعلم حقيقة كيفيته . قلت : أراد بالجهة إثبات العلو لله تعالى ، أما لفظ الجهة فلم يرد في الكتاب ولا السنة ، ولا يلزم من إثبات العلو إثباتها ; لأن العرش سقف جميع [ ص: 203 ] المخلوقات ، فما فوقه لا يسمى جهة ، ولو سلمنا أنه يلزم من إثبات العلو إثبات الجهة ، فلازم الحق حق ، فما استلزمه صريح الآيات والأحاديث ، فهو حق بلا خلاف عند أهل السنة .

      وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في العقيدة الواسطية بعد سرد الآيات والأحاديث في الصفات : ، وقد دخل فيما ذكرنا من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر به في كتابه ، وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجمع عليه سلف الأمة من أنه - سبحانه - فوق سماواته على عرشه ، علي على خلقه ، وهو - سبحانه - معهم أينما كانوا ، يعلم ما هم عاملون ، كما جمع بين ذلك في قوله تعالى : ( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون ) ، وليس معنى قوله : ( وهو معكم ) أنه مختلط بالخلق ، فإن هذا لا توجبه اللغة ، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة ، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق ، بل القمر آية من آيات الله ، من أصغر مخلوقاته ، وهو موضوع في السماء ، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان ، والله - سبحانه - فوق العرش ، رقيب على خلقه ، مهيمن عليهم ، مطلع عليهم ، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته ، وكل هذا الكلام الذي ذكر الله - تعالى - من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته ، لا يحتاج إلى تحريف ، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة ، مثل أن يظن أن ظاهر قوله ( في السماء ) أن السماء تقله أو تظله ، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان ، فإن الله - تعالى - قد وسع كرسيه السماوات والأرض ، وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ا هـ .

      ومصنفات هذا الإمام وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله تعالى - في الانتصار لمعتقد أهل السنة والجماعة قد طبقت المشارق والمغارب ، ولو ذهبنا نذكر أقوال أهل العلم والدين من السلف والخلف ، لاحتجنا إلى عدة أسفار بل إلى عدة أحمال ، وفيما ذكرناه كفاية .

      ونحن نشهد الله - تعالى - وحملة عرشه وجميع ملائكته وأنبياءه ورسله وجميع خلقه أنا نثبت لربنا - عز وجل - ما أثبته لنفسه في كتابه ، وأثبته رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأجمع عليه [ ص: 204 ] أهل السنة والجماعة ، سلفا وخلفا ممن ذكرنا وممن لم نذكر ، من أن ربنا وإلهنا فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ، وهو يعلم ما هم عليه ، لا يخفى عليه منهم خافية ، واستواؤه على عرشه كما أخبر ، وعلى الوجه الذي عناه وأراده كما يليق بجلال ربنا وعظمته ، لا نتكلف لذلك تأويلا ولا تكييفا ، بل نقول آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله ، وآمنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا نطلب إماما غير الكتاب والسنة ، ولا نتخطاهما إلى غيرهما ، ولا نتجاوز ما جاء فيهما ، فننطق بما نطقا به ، ونسكت عما سكتا عنه ، ونسير سيرهما حيث سارا ، ونقف معهما حيث وقفا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية