الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 212 ] ذكر من ملك من الفرس بعد كيقباذ

لما توفي كيقباذ ملك بعده ابنه كيكاووس بن كينية بن كيقباذ ، فلما ملك حمى بلاده وقتل جماعة من عظماء البلاد المجاورة له ، وكان يسكن بنواحي بلخ ، وولد له ولد سماه سياوخش وضمه إلى رستم الشديد بن داستان بن نريمان بن جوذنك بن كرشاسب ، وكان إصبهبذ سجستان وما يليها ، وجعله عنده ليربيه ، فأحسن تربيته وعلمه العلوم والفروسية والآداب وما يحتاج الملوك إليه ، فلما كمل ما أراد حمله إلى أبيه ، فلما رآه سر به صورة ومعنى .

وكان أبوه كيكاووس قد تزوج ابنة أفراسياب ملك الترك ، وقيل إنها ابنة ملك اليمن ، فهويت سياوخش ودعته إلى نفسها ، فامتنع ، فسعت به إلى أبيه حتى أفسدته عليه ، فسأل سياوخش رستم الشديد ليتوصل مع أبيه لينفذه إلى محاربة أفراسياب بسبب منعه بعض ما كان قد استقر بينهما ، وأراد البعد عن أبيه ليأمن كيد امرأته ، ففعل ذلك رستم ، فسيره أبوه وضم إليه جيشا كثيفا فسار إلى بلاد الترك للقاء أفراسياب ، فلما سار إلى تلك الناحية جرى بينهما صلح ، فكتب سياوخش إلى أبيه يعرفه ما جرى بينه وبين أفراسياب من الصلح ، فكتب إليه والده يأمره بمناهضة أفراسياب ومحاربته وفسخ الصلح ، فاستقبح سياوخش الغدر وأنف منه ، فلم ينفذ ما أمره به ، ورأى أن ذلك من فعل زوجة والده ليقبح فعله ، فراسل أفراسياب في الأمان لنفسه لينتقل إليه ، [ ص: 213 ] فأجابه أفراسياب إلى ذلك ، وكان السفير في ذلك قيران بن ويسعان ، ودخل سياوخش إلى بلاد الترك ، فأكرمه أفراسياب وأنزله وأجرى عليه وزوجه بنتا له يقال لها وسفافريد ، وهي أم كيخسرو ، فظهر له من أدب سياوخش ومعرفته بالملك وشجاعته ما خاف على ملكه منه ، وزاد الفساد بينهما بسعي ابني أفراسياب وأخيه كيدر حسدا منهم لسياوخش ، فأمرهم أفراسياب بقتله فقتلوه ومثلوا به ، وكانت زوجته ابنة أفراسياب حاملة منه بابنه كيخسرو فطلبوا الحيلة في إسقاط ما في بطنها ، فلم يسقط ، فأنكر قيران الذي كان أمان سياوخش على يده قتله وحذر عاقبته ، والأخذ بثأره من والده كيكاووس ومن رستم ، وأخذ زوجة سياوخش إليه لتضع ما في بطنها ويقتله ، فلما وضعت رق قيران لها وللمولود ولم يقتله وستر أمره حتى بلغ ، فسير كيكاووس إلى بلاد الترك من كشف أمره وأخذه إليه .

وحين بلغ خبر قتله إلى فارس لبس شادوس بن جودرز السواد حزنا ، وهو أول من لبسه ، ودخل على كيكاووس فقال له : ما هذا ؟ فقال : إن هذا اليوم يوم ظلام وسواد .

ثم إن كيكاووس لما علم بقتل ابنه سير الجيوش مع رستم الشديد وطوس إصبهبذ أصبهان لمحاربة أفراسياب ، فدخلا بلاد الترك ، فقتلا وأسرا وأثخنا فيها ، وجرى لهما مع أفراسياب حروب شديدة قتل فيها ابنا أفراسياب وأخوه الذين أشاروا بقتل سياوخش .

وزعمت الفرس أن الشياطين كانت مسخرة له ، وأنها بنت له مدينة طولها في زعمهم ثلاثمائة فرسخ وبنوا عليها سورا من صفر وسورا من شبه ، وسورا من فضة ، وكانت الشياطين تنقلها بين السماء والأرض وما بينهما ، وأن كيكاووس لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث . ثم إن الله أرسل إلى المدينة من يخربها فعجزت الشياطين عن [ ص: 214 ] المنع عنها ، فقتل كيكاووس جماعة من رؤسائهم .

وقال بعض العلماء بأخبار المتقدمين : إنما سخر له فعل الشياطين بأمر سليمان بن داود ، وكان مظفرا لا يناوئه أحد من الملوك إلا ظهر عليه ، فلم يزل كذلك حتى حدثته نفسه بالصعود إلى السماء ، فسار من خراسان إلى بابل ، وأعطاه الله تعالى قوة ارتفع بها ومن معه حتى بلغوا السحاب ، ثم سلبهم الله تلك القوة ، فسقطوا وهلكوا وأفلت بنفسه وأحدث يومئذ .

وهذا جميعه من أكاذيب الفرس الباردة .

ثم إن كيكاووس بعد هذه الحادثة تمزق ملكه وكثرت الخوارج عليه وصاروا يغزونه ، فيظفر مرة ويظفرون أخرى .

ثم غزا بلاد اليمن وملكها يومئذ ذو الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرايش ، فلما ورد اليمن خرج إليه ذو الأذعار ، وكان قد أصابه الفالج ، فلم يكن يغزو ، فلما وطئ كيكاووس بلاده خرج إليه بنفسه وعساكره وظفر بكيكاووس فأسره واستباح عسكره ، وحبسه في بئر وأطبق عليه . فسار رستم من سجستان إلى اليمن وأخرج كيكاووس وأخذه ، وأراد ذو الأذعار منعه فجمع العساكر وأراد القتال ثم خاف البوار فاصطلحا على أخذ كيكاووس والعود إلى بلاد الفرس ، فأخذه وأعاده إلى ملكه ، فأقطعه كيكاووس سجستان وزابلستان ، وهي من أعمال غزنة ، وأزال عنه اسم العبودية ، ثم توفي كيكاووس ، وكان ملكه خمسمائة وخمسين سنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية