الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 288 ] فصل

في حقيقة المعجز

معنى قولنا : " إن القرآن معجز " على أصولنا : أنه لا يقدر العباد عليه . وقد ثبت أن المعجز الدال على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصح دخوله تحت قدرة العباد ، وإنما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه ، ولا يجوز أن يعجز العباد عما تستحيل قدرتهم عليه ، كما يستحيل عجزهم عن فعل الأجسام ، فنحن لا نقدر على ذلك وإن لم يصح وصفنا بأنا عاجزون عن ذلك حقيقة ، وكذلك معجزات سائر الأنبياء على هذا .

فلما لم يقدر عليه أحد شبه بما يعجز عنه العاجز ، وإنما لا يقدر العباد على الإتيان بمثله ؛ لأنه لو صح أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز ، وقد أجرى الله العادة بأن يتعذر فعل ذلك منهم ، وأن لا يقدروا عليه .

ولو كان غير خارج عن العادة لأتوا بمثله ، أو عرضوا عليه من كلام فصحائهم وبلغائهم ، ما يعارضه .

فلما لم يشتغلوا بذلك ، علم أنهم فطنوا لخروج ذلك عن أوزان كلامهم ، وأساليب نظامهم ، وزالت أطماعهم عنه .

وقد كنا بينا أن التواضع ليس يجب أن يقع على قول الشعر ووجوه النظم المستحسنة في الأوزان المطربة للسمع ، لا يحتاج في مثله إلى توقيف ، وأنه يتبين أن مثل ذلك يجري في الخطاب ، فلما جرى فيه فطنوا له واختاروه وطلبوه ؛ وطلبوا أنواع الأوزان والقوافي ، ثم وقفوا على حسن ذلك وقدروا عليه ، بتوفيق الله - عز وجل - ، وهو الذي جمع خواطرهم عليه ، وهداهم له [ ص: 289 ] وهيأ دواعيهم إليه ، ولكنه أقدرهم على حد محدود ، وغاية في العرف مضروبة ؛ لعلمه بأنه سيجعل القرآن معجزا ، ودل على عظم شأنه بأنهم قدروا على ما بينا من التأليف ، وعلى ما وصفنا من النظم ، من غير توقيف ولا اقتفاء أثر ، ولا تحد إليه ولا تقريع .

فلو كان هذا من ذلك القبيل ، أو من الجنس الذي عرفوه وألفوه - لم تزل أطماعهم عنه ، ولم يدهشوا عند وروده عليهم ، فكيف وقد أمهلهم وفسح لهم في الوقت ، وكان يدعو إليه سنين كثيرة ، وقال عز من قائل : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير .

وبظهور العجز عنه بعد طول التقريع والتحدي ، بان أنه خارج عن عاداتهم ، وأنهم لا يقدرون عليه .

وقد ذكرنا أن العرب كانت تعرف ما يباين عادتها من الكلام البليغ ؛ لأن ذلك طبعهم ولغتهم ، فلم يحتاجوا إلى تجربة عند سماع القرآن ، وهذا في البلغاء منهم ، دون المتأخرين في الصنعة .

والذي ذكرناه يدلك على أنه لا كلام أزيد في قدر البلاغة من القرآن .

وكل من جوز أن يكون للبشر قدرة على أن يأتوا بمثله في البلاغة - لم يمكنه أن يعرف أن القرآن معجز بحال .

ولو لم يكن جرى في المعلوم أنه سيجعل القرآن معجزا ، لكان يجوز أن تجري عادات البشر بقدر زائد على ما ألفوه من البلاغة ، وأمر يفوق ما عرفوه من الفصاحة .

[ ص: 290 ] وأما " نظم القرآن " فقد قال أصحابنا فيه : إن الله تعالى يقدر على نظم هيئة أخرى تزيد في الفصاحة عليه ، كما يقدر على مثله .

وأما بلوغ بعض نظم القرآن الرتبة التي لا مزيد عليها ، فقد قال مخالفونا : إن هذا غير ممتنع ؛ لأن فيه من الكلمات الشريفة ، الجامعة للمعاني البديعة ، وانضاف إلى ذلك حسن الموقع ، فيجب أن يكون قد بلغ النهاية ، لأنه عندهم - وإن زاد على ما في العادة - فإن الزائد عليها وإن تفاوت ، فلا بد من أن ينتهي إلى حد لا مزيد عليه .

والذي نقوله : إنه لا يمتنع أن يقال : إنه يقدر الله تعالى على أن يأتي بنظم أبلغ وأبدع من القرآن كله .

وأما قدر العباد فهي متناهية في كل ما يقدرون عليه
، مما تصح قدرتهم عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية