الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب

في سؤال عن التوسل بالأموات

وكذلك الأحياء والاستغاثة بهم، ومناجاتهم عند الحاجة، وتعظيم قبورهم، واعتقاد أن لهم قدرة على قضاء حوائج المحتاجين، وإنجاح طلبات السائلين، وما حكم من فعل شيئا من ذلك؟ وهل يجوز قصد قبور الصالحين لتأدية الزيارة، ودعاء الله عندها، من غير استغاثة بهم، بل التوسل بهم فقط؟

والجواب عليه، قال -رضي الله عنه-: فأقول مستعينا بالله:

اعلم أن الكلام على هذه الأطراف يتوقف على إيضاح ألفاظ هي منشأ الاختلاف والالتباس.

فمنها: الاستغاثة بالغين المعجمة والمثلثة.

ومنها: الاستعانة، بالعين المهملة والنون.

ومنها: التشفع.

ومنها: التوسل.

بيان معنى الاستغاثة

فأما الاستغاثة -بالمعجمة والمثلثة- فهي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة; كالاستنصار، وهو طلب النصر.

ولا خلاف أنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على الغوث فيه من الأمور، ولا يحتاج مثل ذلك إلى الاستدلال، فهو في غاية الوضوح، وما أظنه [ ص: 46 ] يوجد فيه خلاف، ومنه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه [القصص: 10] كما قال: وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر [الأنفال: 72] وكما قال تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى [المائدة: 2].

وأما ما لا يقدر عليه إلا الله; فلا يستغاث فيه إلا به، كغفران الذنوب، والهداية، وإنزال المطر والرزق، ونحو ذلك، كما قال تعالى: ومن يغفر الذنوب إلا الله [آل عمران: 130] وقال: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ، وقال: يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض [فاطر: 4].

وعلى هذا يحمل ما أخرجه الطبراني في "معجمه الكبير": أنه كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- منافق يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: قوموا بنا نستغيث برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا المنافق.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله".


فمراده صلى الله عليه وسلم: أنه لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله.

وأما ما يقدر عليه المخلوق، فلا مانع من ذلك، مثل أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل حجر، أو يحول بينه وبين عدوه الكافر، أو يدفع عنه سبعا صائلا، أو لصا، أو نحو ذلك.

وقد ذكر أهل العلم أنه يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله -سبحانه وتعالى- وأن كل غوث من عنده، وإذا حصل شيء من ذلك على يد غيره، فالحقيقة له سبحانه، ولغيره مجاز، ومن أسمائه: "المغيث" و"الغياث".

قال أبو عبد الله الحليمي: الغياث هو المغيث، وأكثر ما يقال: غياث المستغيثين. ومعناه: المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه، ومجيبهم ومخلصهم، وفي خبر الاستسقاء في "الصحيحين": "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا".

إغاثة، غياثة، وغوثا، وهو في معنى المجيب والمستجيب، قال تعالى: [ ص: 47 ] إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم [الأنفال: 9] إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة بالأقوال. وقد يقع كل منهما موقع الآخر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاواه ما لفظه: والاستغاثة بمعنى: أن يطلب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما اللائق بمنصبه، لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر، وإما مخطئ ضال.

وأما بالمعنى الذي نفاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو أيضا مما يجب نفيها، ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضا كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها.

ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق.

وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة السجين بالمسجون.

التالي السابق


الخدمات العلمية