الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              29 [ ص: 659 ] 21 - باب : كفران العشير وكفر (دون) كفر

                                                                                                                                                                                                                              فيه: عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. [304]

                                                                                                                                                                                                                              29 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن". قيل أيكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط". [431، 748، 1052، 3202، 5197 - مسلم: 907 - فتح: 1 \ 83].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              نا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن". قيل أيكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط".

                                                                                                                                                                                                                              الكلام عليه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي سعيد هذا أخرجه البخاري في الحيض مسندا كما ستعلمه، وأخرجه مسلم أيضا، وحديث ابن عباس أخرجه في كتاب العلم، عن سليمان بن حرب، نا شعبة، عن أيوب، عن ابن عباس.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 660 ] وأخرجه مسلم في العيدين، عن أبي بكر، وابن أبي عمر، عن سفيان، عن أيوب، وعن ابن أبي رافع، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج كلاهما عن عطاء.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه البخاري في: بدء الخلق، والنكاح والكسوف مطولا كما ستعلمه، إن شاء الله.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، وابن عمر أيضا، وأخرجاه من حديث جابر أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: في التعريف برواته:

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف التعريف بهم خلا عطاء، وزيد بن أسلم. أما عطاء (ع) فهو أبو محمد عطاء بن يسار المدني الهلالي، مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخو سليمان وعبد الملك وعبد الله. سمع خلقا من كبار الصحابة، وعنه جمع من التابعين، وهو ثقة كثير الحديث، مات سنة ثلاث أو أربع ومائة، وقيل: سنة أربع وتسعين، وقيل: سنة سبع وتسعين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 661 ] فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              قول مسلم في "صحيحه" في كتاب التيمم عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الرحمن بن يسار مولى ميمونة، وذكر الحديث كذا وقع فيه عبد الرحمن بن يسار، وهو خطأ وصوابه: عبد الله بن يسار، هكذا رواه البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم، فتنبه لذلك.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 662 ] وأما زيد (ع) بن أسلم: فهو أبو أسامة القرشي العدوي المدني التابعي الجليل، مولى عمر بن الخطاب، روى عن جماعات من الصحابة والتابعين، وعنه جمع من التابعين منهم الزهري وغيرهم منهم مالك، وجلالته مجمع عليها.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سعد: كانت له حلقة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ثقة كثير الحديث، ومناقبه جمة، مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو ست وثلاثين ومائة، وقيل: نحو ثلاث وأربعين.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الإسناد كله مدنيون خلا ابن عباس لكنه أقام بالمدينة.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              أردف البخاري هذا الباب بالذي قبله; لينبه على أن المعاصي تنقص الإيمان، ولا تخرج إلى الكفر الموجب للخلود في النار; لأنهم ظنوا أنه الكفر بالله. فأجابهم - صلى الله عليه وسلم - أنه أراد كفرهن حق أزواجهن، وذلك لا محالة نقص من إيمانهن; لأنه يزيد بشكرهن العشير وبأفعال البر.

                                                                                                                                                                                                                              فظهر بهذا أن الأعمال من الإيمان، وأنه قول وعمل كما أسلفناه، فإخراجه له هنا أيضا; لينبه على أن الكفر قد يطلق على كفر النعمة، وجحد الحق، وهو أصله في اللغة ككفران العشير والإحسان إذ لم يرد الكفر بالله، فيفسر به كل ما أطلق عليه الكفر من المعاصي فيما [ ص: 663 ] علم من الأحاديث كقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا ترجعوا بعدي كفارا" و"أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم" و"أما من قال مطرنا بنوء كذا فذاك كافر بي، مؤمن بالكوكب" و"بين الشرك والكفر ترك الصلاة".

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              أصل الكفر: الستر والتغطية، يقال لليل كافر; لستره بالظلمة، وللابس الدرع وفوقها ثوب كافر للتغطية، وفلان كفر النعمة، أي: سترها فلم يشكرها، ويطلق على الكفر بالله تعالى، ويطلق على الحقوق والمال. ثم الكفر بالله أنواع، حكاها الأزهري: إنكار، وجحود، وعناد، ونفاق، وهذه الأربعة من لقي الله بواحد منها لم يغفر له.

                                                                                                                                                                                                                              فالأول: أن يكفر بقلبه ولسانه، ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد، كما قال تعالى: إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم [البقرة: 6] الآية أي: كفروا بالتوحيد، وأنكروا معرفته.

                                                                                                                                                                                                                              والثاني: أن يعرف بقلبه ولا يقر بلسانه، وهذا ككفر إبليس، وبلعم، وأمية بن أبي الصلت.

                                                                                                                                                                                                                              والثالث: أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ويأبى أن يقبل الإيمان بالتوحيد، ككفر أبي طالب.

                                                                                                                                                                                                                              والرابع: أن يقر بلسانه، ويكفر بقلبه، ككفر المنافقين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 664 ] قال الأزهري: ويكون الكفر بمعنى البراءة. كقوله تعالى حكاية عن الشيطان: إني كفرت بما أشركتمون من قبل [إبراهيم: 22] أي: تبرأت.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وأما الكفر الذي هو دون ما ذكرنا فالرجل يقر بالوحدانية والنبوة بلسانه، ويعتقد ذلك بقلبه، لكنه يرتكب الكبائر من القتل، والسعي في الأرض بالفساد، ومنازعة الأمر أهله، وشق عصا المسلمين ونحو ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              هذا كلامه، وقد أطلق الشرع الكفر على ما سوى الأنواع الأربعة، وهو كفران الحقوق والنعم، كهذا الحديث وغيره مما قدمته، وهذا مراد البخاري بقوله، وكفر دون كفر. وفي بعض الأصول: وكفر بعد كفر، وهي بمعنى الأول.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("يكفرن") التقدير: هن يكفرن، (فقيل: لما يا رسول الله؟ قال: "يكفرن") كما جاء في صلاة الكسوف.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها:

                                                                                                                                                                                                                              ("العشير"): المعاشر. قالوا: والمراد هنا: الزوج يسمى بذلك الذكر والأنثى; لأن كل واحد منهما يعاشر صاحبه، ولا يمتنع كما قال النووي حمله على عمومه، والعشير أيضا: الخليط والصاحب.

                                                                                                                                                                                                                              سادسها:

                                                                                                                                                                                                                              ("قط") لتأكيد نفي الماضي، وفيها لغات: فتح القاف وضمها مع تشديد الطاء المضمومة فيهما، وبضمها مع التخفيف، وكسرها مع التخفيف، وبفتحها مع تشديد الطاء المكسورة، وبالفتح مع الإسكان ومع الضم، ومع الكسر بالتخفيف، وقد سلف بعضها.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 665 ] قال الجوهري عن الكسائي: كان أصلها قطط، فسكن الأول وحرك الآخر; بإعرابه هذا إذا كانت معناها: الزمان، أما إذا كانت بمعنى: "حسب" وهو الاكتفاء، فهي مفتوحة ساكنة الطاء. تقول: رأيته مرة واحدة فقط، قال القاضي: وقد تكون هذه للتقليل أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              سابعها: في فوائده:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: ما ترجم له، وهو أن الكفر قد يطلق على غير الكفر بالله تعالى ويؤخذ منه صحة تأويل الكفر في الأحاديث السالفة ونحوها على كفر النعمة والحقوق.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: وعظ الإمام، وأصحاب الولايات، وكبار الناس رعاياهم وتباعهم، وتحذيرهم المخالفات، وتحريضهم على الطاعات. كما جاء في رواية أخرى في "الصحيح": "يا معشر النساء تصدقن".

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: مراجعة المتعلم العالم، والتابع المتبوع فيما قاله إذا لم يظهر له معناه.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة: تحريم كفران الحقوق والنعم; إذ لا يدخل النار إلا بارتكاب حرام، قال النووي: توعده عليهما بالنار يدل على أنهما من الكبائر.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة: التعذيب على جحد الإحسان، والفضل، (وشكر النعم)، وشكر المنعم واجب.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية