الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
سورة الفاتحة متضمنة لإخلاص التوحيد

انظر فاتحة الكتاب التي تكرر في كل صلاة مرات، من كل فرد من الأفراد، ويفتتح بها التالي لكتاب الله، والمتعلم له، فإن فيها الإرشاد إلى إخلاص التوحيد في مواضع.

1- فمن ذلك: بسم الله الرحمن الرحيم فإن علماء المعاني والبيان ذكروا [ ص: 94 ] أنه يقدر المتعلق متأخرا; ليفيد اختصاص البداية باسمه تعالى، لا باسم غيره، وفي هذا ما لا يخفى من إخلاص التوحيد.

2- ومنها في قوله: الحمد لله رب العالمين فإن التعريف يفيد أن الحمد مقصور على الله، واللام في "الله" يفيد اختصاص الحمد له.

ومقتضى هذا أنه لا حمد لغيره أصلا، وما وقع منه لغيره، فهو في حكم العدم، وقد تقرر أن الحمد هو: الثناء باللسان على الجميل الاختياري لقصد التعظيم، فلا ثناء إلا عليه، ولا جميل إلا منه، ولا تعظيم إلا له. وفي هذا من إخلاص التوحيد ما ليس عليه مزيد.

- ومن ذلك: قوله: مالك يوم الدين أو (ملك يوم الدين) على القراءتين السبعيتين.

فإن كونه المالك ليوم الدين يفيد أنه لا ملك لغيره، فلا ينفذ إلا تصرفه، لا تصرف أحد من خلقه، من غير فرق بين نبي مرسل، وملك مقرب، وعبد صالح، وهذا معنى كونه "ملك يوم الدين" فإنه يفيد أن الأمر أمره، والحكم حكمه، ليس لغيره معه أمر ولا حكم، كما أنه ليس لغير ملوك الأرض معهم أمر ولا حكم، ولله المثل الأعلى.

وقد فسر الله هذا المعنى الإضافي المذكور في فاتحة الكتاب في موضع آخر من كتابه العزيز فقال: وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله .

ومن كان يفهم كلام العرب ونكته وأسراره، كفته هذه الآية عن غيرها من الأدلة، واندفعت لديه كل شبهة.

4- ومن ذاك: إياك نعبد ، فإن تقدم الضمير قد صرح أئمة المعاني والبيان وأئمة التفسير: أنه يفيد الاختصاص، فالعبادة لله سبحانه، ولا يشاركه فيها غيره، ولا يستحقها.

وقد عرفت أن الاستغاثة، والدعاء، والتعظيم، والذبح، والتقرب، من أنواع العبادة.

[ ص: 95 ] 5- ومن ذلك: قوله: وإياك نستعين فإن تقدم الضمير هاهنا يفيد الاختصاص كما تقدم.

وهو يقتضي أنه لا يشاركه غيره في الاستعانة به في الأمور التي لا يقدر عليها غيره.

فهذه خمسة مواضع في فاتحة الكتاب، يفيد كل منها إخلاص التوحيد، مع أن فاتحة الكتاب ليست إلا سبع آيات، فما ظنك بما في سائر الكتاب العزيز؟!!

فذكرنا لهذه الخمسة المواضع في فاتحة الكتاب، كالبرهان على ما ذكرناه، من أن في الكتاب العزيز من ذلك ما يطول تعداده، وتتعسر الإحاطة به.

ومما يصلح أن يكون موضعا سادسا لتلك المواضع الخمسة في فاتحة الكتاب قوله: رب العالمين وقد تقرر لغة وشرعا أن "العالم" ما سوى الله سبحانه.

وصيغ الحصر إذا تتبعتها من كتب المعاني، والبيان، والتفسير، والأصول، بلغت ثلاثة عشر صيغة فصاعدا، ومن شك في هذا فليتتبع "كشاف الزمخشري" فإنه سيجد فيه ما ليس له ذكر في كتب المعاني والبيان; كالقلب; فإنه جعله من مقتضيات الحصر، ولعله ذكر ذلك عند تفسيره للطاغوت، وغير ذلك مما لا يقتضي المقام بسطه.

ومع الإحاطة بصيغ الحصر المذكورة تكثر الأدلة الدالة على إخلاص التوحيد وإبطال الشرك بجميع أقسامه.

واعلم أن السائل -كثر الله فوائده- ذكر في جملة ما سأل عنه: أنه لو قصد الإنسان قبر رجل من المسلمين، مشهور بالصلاح، ووقف لديه، وأدى الزيارة، وسأل الله بأسمائه الحسنى، وبما لهذا الميت من المنزلة، هل تكون هذه البدعة عبادة لهذا الميت، ويصدق عليه أنه قد دعا غير الله، وأنه قد عبد غير الرحمن، [ ص: 96 ] وسلب عنه اسم الإيمان، ويصدق على هذا القبر أنه وثن من الأوثان، ويحكم بردة ذلك الداعي، والتفريق بينه وبين نسائه، واستباحة أمواله، ويعامل معاملة المرتدين؟ أو يكون فاعلا معصية كبيرة أو مكروها؟

وأقول: إنا قد قدمنا في أوائل هذا الجواب أنه لا بأس بالتوسل بنبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء، أو عالم من العلماء، وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه.

فهذا الذي جاء إلى القبر زائرا، ودعا الله وحده، وتوسل بذلك الميت، كأن يقول: اللهم إني أسألك أن تشفيني من كذا، وأتوسل إليك بما لهذا العبد الصالح من العبادة لك، والمجاهدة فيك، والتعلم والتعليم، خالصا لك، فهذا لا تردد في جوازه.

لكن لأي معنى قام يمشي إلى القبر؟ فإن كان لمحض الزيارة، ولم يعزم على الدعاء والتوسل إلا بعد تجريد القصد إلى الزيارة، فهذا ليس بممنوع; فإنه إنما جاء ليزور، وقد أذن لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بزيارة القبور، بحديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" وهو في "الصحيح".

وخرج لزيارة الموتى، ودعا لهم، وعلمنا كيف نقول إذا نحن زرناهم، وكان يقول: "السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا بكم إن شاء الله لاحقون، وأتاكم ما توعدون، نسأل الله لنا ولكم العافية" وهو أيضا في "الصحيح" بألفاظ وطرق.

فلم يفعل هذا الزائر إلا ما هو مأذون له به، ومشروع، لكن بشرط ألا يشد [ ص: 97 ] راحلته، ولا يعزم على سفر، ولا يرحل، كما ورد تقييد الإذن بالزيارة للقبور بحديث: "لا تشد الرحال إلا لثلاثة" وهو مقيد لمطلق الزيارة، وقد خصص بمخصصات، منها:

زيارة القبر الشريف النبوي المحمدي -على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم- وفي ذلك خلاف بين العلماء، وهي مسألة من المسائل التي طالت ذيولها، واشتهرت أصولها، وامتحن بسببها من امتحن، وليس ذكر ذلك هاهنا من مقصودنا.

وأما إذا لم يقصد مجرد الزيارة، بل قصد المشي إلى القبر ليفعل الدعاء عنده فقط، وجعل الزيارة تابعة لذلك، أو مشى لمجموع الزيارة والدعاء، فقد كان يغنيه أن يتوسل إلى الله بذلك الميت من الأعمال الصالحة، من دون أن يمشي إلى قبره.

فإن قال: إنما مشيت إلى قبره لأشير إليه عند التوسل به، فيقال له: إن الذي يعلم السر وأخفى، ويحول بين المرء وقلبه، ويطلع على خفيات الضمائر، وتنكشف لديه مكنونات السرائر، لا يحتاج منك إلى هذه الإشارة التي زعمت أنها الحاملة لك على قصد القبر، والمشي إليه، وقد كان يغنيك أن تذكر ذلك الميت باسمه العلم، أو بما يتميز به عن غيره، فما أراك مشيت لهذه الإشارة فإن الذي تدعوه في كل مكان، مع كل إنسان، بل مشيت لتسمع الميت توسلك به، وتعطف قلبه عليك، وتتخذ عنده يدا بقصده وزيارته والدعاء عنده، والتوسل به، وأنت إن رجعت إلى نفسك، وسألتها عن هذا المعنى، فربما تقر لك به، وتصدقك الخبر.

فإن وجدت عندها هذا المعنى الدقيق، الذي هو بالقبول منك حقيق، فاعلم أنه قد علق بقلبك ما علق بقلوب عباد القبور.

ولكنك قهرت هذه النفس الخبيثة عن أن تترجم بلسانك عنها، وتنشر ما انطوت عليه من محبة ذلك القبر، والاعتقاد فيه، والتعظيم له، والاستغاثة به، فأنت مالك لها من هذه الحيثية، مملوك لها من الحيثية التي أقامتك من مقامك، ومشت بك إلى فوق القبر.

[ ص: 98 ] فإن تداركت نفسك بعد هذه، وإلا كانت المسؤولة عليك، المتصرفة فيك، المتلاعبة بك في جميع ما تهواه، مما قد وسوس به لها الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس.

فإن قلت: قد رجعت إلى نفسي، فلم نجد عندها شيئا من هذا، وفتشتها فوجدتها صافية عن ذلك الكدر.

فما أظن الحامل لك على المشي إلى القبر إلا أنك سمعت الناس يفعلون شيئا ففعلته، ويقولون شيئا فقلته، فاعلم أن هذه أول عقدة من عقود توحيدك، وأول محنة من محن تقليدك، فارجع تؤجر، ولا تتقدم تنحر، فإن هذا التقليد الذي حملك على هذه المشية الفارغة العاطلة الباطلة، ستحملك على أخواتها، فتقف على باب الشرك أولا، ثم تدخل منه ثانيا، ثم تسكن فيه وإليه ثالثا، وأنت في ذلك كله تقول: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، ورأيتهم يفعلون أمرا ففعلته.

وإن قلت: إنك على بصيرة في عملك وعلمك، ولست ممن ينقاد إلى هوى نفسه، كالأول، ولا ممن يقهرها، ولكنه يقلد الناس كالثاني، بل أنت صافي السر، نقي الضمير، خالص الاعتقاد، قوي اليقين، صحيح التوحيد، جيد التمييز، كامل العرفان، عالم بالسنة والقرآن، فلا لمراد نفسك اتبعت، ولا في هوة التقليد وقعت، فقل لي بالله: ما الحامل لك على التشبه بعباد القبور، والتغرير على من كان في عداد سليمي الصدور؟

فإنه يراك الجاهل والخامل، ومن هو عن علمك وتميزك عاطل، فيفعل كفعلك، يقتدي بك، وليس له بصيرة مثل بصيرتك، ولا قوة في الدين مثل قوتك، فيحكي فعلك صورة، ويخالفه حقيقة، ويعتقد أنك لم تقصد هذا القبر إلا لأمر، ويغتنم إبليس اللعين غربة هذا المسكين، الذي اقتدى بك، واستن بسنتك، فيستدرجه حتى يبلغ به إلى حيث يريد.

[ ص: 99 ] فرحم الله امرأ هرب بنفسه عن غوائل التقليد، وأخلص عبادته للحميد المجيد.

وقد ظهر بمجموع هذا التقسيم: أن [من] يقصد القبر ليدعو عنده، هو أحد ثلاثة:

1- إن مشى لقصد الزيارة فقط، وعرض له الدعاء، ولم يحصل بدعائه تغرير على الغير، فذلك جائز.

2- وإن مشى لقصد الدعاء فقط، أو له مع الزيارة، وكان له من الاعتقاد ما قدمنا، فهو على خطر الوقوع في الشرك، فضلا عن كونه عاصيا.

3- وإذا لم يكن له اعتقاد في الميت على الصفة التي ذكرنا، فهو عاص آثم. وهذا أقل أحواله، وأحقر ما يربحه في رأس ماله.

وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق.

التالي السابق


الخدمات العلمية