الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الدليل من السنة على أن معنى "المغضوب عليهم"

هم اليهود "والضالين" هم النصارى

أخرج أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وأبو حيان وصححه مرفوعا: "أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن الضالين النصارى". ورواه أبو الشيخ عن عبد الله بن شقيق، وابن مردويه عن أبي ذر، مثله، وبه قال ربيع بن أنس، ومجاهد، وابن جبير، وإنما سموا بها; لاختصاص كل منهما بما غلب عليه.

قال أهل العلم: أراد: المغضوب عليهم بالبدعة، والضالين عن السنة. قاله القرطبي.

وأي بدعة أعظم من بدعة التقليد؟!

بل لم تحدث هذه البدعة في الدنيا إلا من اليهود، كما حققه الشوكاني في "الفتح الرباني".

وأي ضلالة أكبر من ترك السنة؟!! ولم يأت في العالم إلا من قبيل النصارى، فصاروا بسبب ذلك مغضوبين ضالين.

[ ص: 103 ] فمن سلك في الدين مسلكهم هذا، فهو في حكمهم إلى يوم الدين.

وقد حكى الله سبحانه عن هؤلاء المغضوبين الضالين تقليدهم للأحبار والرهبان في كتابه العزيز، فقال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [التوبة: 31] الآية، وسيأتي تفسيرها في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

وإذا عرفت هذا، فقد تقرر أن التقليد شيء لم يرد كتاب ولا سنة إلا بسؤال تركه، وطلب الاستقامة على الصراط المنعم على أهله، وهو اتباعهما، والفرار عن خلاف ما فيهما.

ومجيئه في فاتحة الكتاب مؤذن بعظم موقعه في الدين.

وإنك إذا تتبعت القرآن والحديث من أولهما إلى آخرهما لم تجد فيهما حرفا واحدا يدل على جواز التقليد، فضلا عن وجوبه.

وهذا كتاب الله بين يديك، وهذه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين ظهرانيك، راجعهما، وتفضل علينا بآية واحدة، أو حديث واحد يفيد ذلك، وإلا فتب إلى الله تعالى من هذه المحدثات والضلالات التي جاءت إليك من أهل الكتاب، وهم الذين لعنهم الله، وغضب عليهم، وأضلهم، وأرشدنا الاستعاذة من الكون على دينهم وطريقتهم الجالبة للغضب والضلالة. والله أعلم.

وقال تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا جمع "ند" وهو "المثل" و"النظير".

قال في "فتح البيان": وفي الآية دليل على وجوب استعمال الحجج وترك التقليد.

وقال تعالى: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب [البقرة: 166] [ ص: 104 ] أي: إن السادة والرؤساء تنزهوا، وتباعدوا ممن اتبعهم على الضلالة عند العروض والمسألة في الآخرة.

قال في "فتح البيان": احتج جمع من أهل العلم بهذه الآية على ذم التقليد، وهو مذكور في موطنه. انتهى.

قلت: وهذا واضح، لا سترة عليه; فإن براءة المبتدعين من التابعين لا يتصور إلا بأنهم قلدوهم فيما لا يغني عنهم شيئا. ولو كان تقليدهم لهم صوابا لم يكن للتبري وجه. وسيأتي الكلام عليه في موضع آخر.

وقال تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [البقرة: 107].

قال العلماء: في هذه الآية من الذم للمقلدين، والنداء بجهلهم الفاحش، واعتقادهم الفاسد، ما لا يقادر قدره، حيث عارضوا الدلالة بالتقليد.

ومثل هذه الآية قوله تعالى: وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا [المائدة: 104] الآية. يعني: من التحريم والتحليل.

وفي ذلك دليل على قبح التقليد، والمنع منه، والبحث في ذلك يطول.

قال الرازي: في هذه الآية تقرير هذا الجواب من وجوه:

أحدها: أنه يقال للمقلد: هل تعترف بأن شرط جواز تقليد الإنسان أن يعلم كونه محقا أم لا؟

فإن اعترفت بذلك لم تعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقا، فكيف عرفت أنه محق؟

[ ص: 105 ] فإن عرفته بتقليد آخر، لزم التسلسل، وإن عرفته بالعقل، فذلك كاف، فلا حاجة إلى التقليد.

وإن قلت: ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كونه محقا، فإذن قد جوزت تقليده.

وإن كان مبطلا فإذن أنت على تقليدك لا تعلم أنك محق أو مبطل.

وثانيها: هب أن ذلك المتقدم كان عالما بهذا الشيء، إلا أنا لو قدرنا ذلك المتقدم ما كان عالما بذلك الشيء قط، وما اختار فيه ألبتة مذهبا، فأنت ماذا كنت تعمل؟

فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم، ولا مذهبه، كان لا بد من العدول إلى النظر، فكذا هاهنا.

وثالثها: أنك إذا قلدت من قبلك، فذلك المتقدم كيف عرفته؟ أعرفته بتقليد أم لا؟

فإن عرفته بتقليد، لزم: إما الدور، وإما التسلسل.

وإن عرفته لا بتقليد، بل بدليل، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدم، وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد; لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد، كنت مخالفا له.

فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه، فيكون باطلا.

وإنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان; تنبيها على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان، وبين متابعة التقليد.

وفيه أقوى دليل على وجوب النظر والاستدلال، وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل، أو على ما يقوله الغير من غير دليل. انتهى.

[ ص: 106 ] ومثله في "فتح العزيز" بالفارسية، للشيخ عبد العزيز المحدث الدهلوي رحمه الله.

وكم من آية بينة، وأثر جلي، وخبر صحيح، تدل على ذم التقليد وأهله، ولكن مفاسد الجهل والتعصب كثيرة لا يأتي عليها الحصر.

هذه فقهاء زماننا منهم من أوجب التقليد، ومنهم من قال: مستحب، ومنهم من يقول: جائز، وكل في فلك يسبحون.

والقائل منهم بالحق، وهو ترك متابعته، وإيثار اتباع الكتاب والسنة، نادر جدا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [الشعراء: 227].

قال البيضاوي في تفسير آخر هذه الآية: هو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد. انتهى.

وعندي: أن شرط القدرة عليهما زائد لا يأتي بفائدة، ولا يعود بعائدة; لأن من لا يقدر عليهما فعليه أن يترك التقليد بسؤال أهل الذكر من الحكم الثابت بالكتاب والسنة، كما كان يفعل عامة الصحابة، وكان المسؤولون يتلون آية، أو يذكرون حديثا للسائل في المسألة.

وهذا القدر كاف في عدم إيثار الرأي على الرواية، ومن لم يسعه ما وسع سلف هذه الأمة، فلا وسع الله عليه.

قال تعالى: ومثل الذين كفروا أي: في اتباعهم آباءهم، وتقليدهم لهم.

وفي ذلك: نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقتهم في التقليد.

وفيه أيضا: إشعار بأن التقليد من شعائر أهل الكفر والطغيان، وليس من آداب أهل الإسلام والإيمان.

كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ولا تفهم ما يقول.

[ ص: 107 ] قال البيضاوي: المعنى: أن الكفرة -لانهماكهم في التقليد- لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم، فهم في ذلك كالبهائم، التي ينعق عليها، فتسمع الصوت، ولا تعرف مغزاه، وتحس بالنداء، ولا تفهم معناه. انتهى.

ولقد صدق فيما قال، فإن أهل العلم قد نصوا على أن التقليد ليس من العلم في ورد ولا صدر.

وأن لفظ "العالم" لا يطلق على المقلد، وإن زعم أنه من العلم في درجة عالية، صرح بذلك ابن عبد البر -رحمه الله- كما حكاه عنه الفلاني في "إيقاظ الهمم" وغيره في غيره.

والحاصل: أن المقلدين حكمهم حكم البهائم.

و"النعيق": زجر الغنم والصياح بها، والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل، ويقولون: أجهل من راعي ضأن.

قال ابن عباس: مثل الذين كفروا أي: تقليدا لمن قبلهم مثل البقر والحمار والشاة، إن قلت لبعضها كلاما، لم يعلم ما تقول، غير أنه يسمع صوتك، وكذا الكافر، إن أمرته بخير، أو نهيته عن شر، أو وعظته، لم يعقل ما تقول، غير أنه يسمع صوتك ونحوه.

قال مجاهد: وهذا شأن المقلدين اليوم، لو عرضت عليهم ألف دليل من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، في ذم التقليد، والحث على الاتباع، لم يعلموا ما تقول، غير أنهم يسمعون صوتك فقط صم بكم عمي فهم لا يرجعون [البقرة: 171].

هذا نتيجة ما قبله، ورفع على الذم; أي: "صم" عن سماع الحق ودعاء الرسول، "بكم" عن النطق بالحق، "عمي" عن طريق الهدى. والله أعلم.

وقال تعالى: وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنـزل الله وإلى الرسول ; أي: إلى [ ص: 108 ] كتاب الله العزيز، وسنة رسوله المطهرة، وحكمهما، قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا وهذه أفعال آبائهم وسنتهم التي سنوها لهم.

وصدق الله سبحانه حيث يقول: أولو كان آباؤهم جهلة ضالين، سفهاء، لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [المائدة: 104] قال هنا: ما "وجدنا" وقال في البقرة: "ما ألفينا" و: "لا يعلمون" هنا، و: "لا يعقلون" هناك، للتحقيق بأساليب من التعبير والتفنن، هذا ما استحسنه أبو حيان، والسمين.

والمعنى: أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي، الذي يبني قوله على الحجة والبرهان، والدليل، وأن آباءهم ما كانوا كذلك، فكيف يصح الاقتداء بهم، والتقليد لهم؟!

قال في "فتح القدير": وقد صارت هذه المقالة التي قالها الجاهلية نصب أعين المقلدة، وعصاهم التي يتوكؤون عليها.

إن دعاهم داعي الحق، وصرخ بهم صارخ الكتاب والسنة، فاحتجاجهم بمن قلدوه ممن هو مثلهم في التعبد بشرع الله، مع مخالفة قوله لكتاب الله، أو لسنة رسوله، هو كقول هؤلاء، وليس الفرق إلا في مجرد العبارة اللفظية، لا في المعنى الذي عليه تدور الإفادة والاستفادة. اللهم غفرا.

وقال تعالى: وإذا فعلوا فاحشة أي: ما يبالغ في فحشه وقبحه من الذنوب، اعتذروا عن ذلك بعذرين:

الأول: قالوا وجدنا عليها آباءنا أي: إنهم فعلوا ذلك تقليدا لآبائهم، واقتداء لما وجدوهم مستمرين على فعل تلك الفاحشة.

والثاني: والله أمرنا بها ; أي: إنهم مأمورون بذلك من جهة الله سبحانه.

وكلا العذرين في غاية البطلان، ونهاية الفساد; لأن وجود آبائهم على القبيح لا يسوغ لهم فعله، بل ذلك محض تقليد باطل لا أصل له.

والأمر من الله سبحانه لهم لم يكن بالفحشاء، بل أمرهم باتباع الأنبياء، والعمل بالكتب المنزلة، ونهاهم عن مخالفتها.

[ ص: 109 ] ومما نهاهم عنه فعل الفواحش؛ ولهذا رد الله سبحانه عليهم بأن أمر نبيه، فقال: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ، فكيف تدعون ذلك عليه؟!.

والحاصل: أن الأمرين المذكورين باطلان; لأن الأول: تقليد للرجال، والثاني: افتراء على ذي الجلال.

قال سليمان الجمل: رد عليهم في المقالة الثانية، ولم يتعرض لرد الأولى; لوضوح فسادها; لما هو معلوم أن تقليد مثل الآباء ليس بحجة.

ثم أنكر عليهم ما أضافوه إليه، فقال: أتقولون على الله ما لا تعلمون [الأعراف: 28] وهو من تمام ما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يقول لهؤلاء المقلدة لآبائهم في فعل الفواحش.

وفيه من التقريع والتوبيخ أمر عظيم؛ فإن القول بالجهل إذا كان قبيحا في كل شيء، فكيف إذا كان في القول على الله؟!

قال في "فتح البيان": وفي هذه الآية الشريفة لأعظم زاجر، وأبلغ واعظ للمقلدة، الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق; فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر، لا بأهل الحق.

فإنهم القائلون: وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير [الزخرف: 223] والقائلون وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها .

والمقلد لولا اغتراره بكونه وجد آباءه على ذلك المذهب، مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به أنه الحق، لم يبق عليه.

وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على اليهودية، والنصراني على النصرانية، والمبتدع على بدعته، والمشرك على شركه، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية، والنصرانية، أو البدعة والشرك.

وأحسنوا الظن بهم، بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به، ولم ينظروا لأنفسهم، ولا طلبوا الحق كما يجب، ولا بحثوا عن دين الله كما ينبغي.

[ ص: 110 ] وهذا هو التقليد البحت، والقصور الخالص.

فيا من نشأ على مذهب من هذه المذاهب الإسلامية! أنا لك النذير العريان، المبالغ في التحذير من أن تقول هذه المقالة، وتستمر على الضلالة، فقد اختلط الشر بالخير، والصحيح بالسقيم، وفاسد الرأي بصحيح الرواية، ولم يبعث الله إلى هذه الأمة إلا نبيا واحدا، أمرهم باتباعه، ونهاهم عن مخالفته، فقال: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .

ولو كان محض آراء أئمة المذاهب وأتباعهم حجة على العباد، لكان لهذه الأمة رسل كثيرون متعددون، بعدد أهل الرأي، المكلفون للناس بما لم يكلفهم الله به.

وإن من أعجب الغفلة، وأعظم الذهول عن الحق، اختيار المقلدة لآراء الرجال، مع وجود كتاب الله، ووجود سنة رسوله بين ظهرانيهم، ووجود من يأخذونهما عنه بين أيديهم، ووجود آلات لفهم ما لديهم، وملكة العقل عندهم. انتهى.

والاحتجاج بمثل هذه الآية على منع التقليد مع كونها نازلة في الكفار والمشركين; لما تقرر في الأصول: أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.

التالي السابق


الخدمات العلمية