الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الثاني: في بيان أن ترك التقليد، والرجوع إلى متابعة الدليل أولى في الدنيا والدين: أنه تعالى بين أن إبراهيم -عليه السلام- لما عدل عن طريقة أبيه [ ص: 122 ] إلى متابعة الدليل، لا جرم، جعل الله دينه ومذهبه باقيا في عقبه إلى يوم القيامة.

وأما أديان آبائه، فقد اندرست وبطلت، فثبت أن الرجوع إلى متابعة الدليل يبقى محمود الأثر إلى قيام الساعة، وأن التقليد والإصرار ينقطع أثره، ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر.

فثبت من هذين الوجهين: أن متابعة الدليل وترك التقليد أولى، فهذا بيان المقصود الأصلي من هذه الآية. انتهى.

وقال تعالى: قل أطيعوا الله والرسول قال في "فتح البيان": حذف المتعلق مشعر بالتعميم; أي: في جميع الأوامر والنواهي.

والمقلد غير مطيع لله وللرسول، بل مشاق لهما، حيث ترك إطاعة الله ورسوله، وأطاع غيرهما من غير حجة نيرة وبرهان جلي.

فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [آل عمران: 32] أي: لا يرضى بفعلهم، ولا يغفر لهم، ونفي المحبة كناية عن البغض والسخط. انتهى.

والآية أفادت أن التقليد من شيم أهل الكفر دون أهل الإسلام، وهذا هو الصواب; لأن الله تعالى لم يحكه في كتابه في أي موضع كان، إلا من المشركين والكفار، فعار على الموحدين والمسلمين أن يختاروا ما هو من خصال غيرهم، فيستحقوا بما استحقوا، ويعاملوا بما عوملوا.

وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول المراد بذلك: اتباع الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، فيما أمرا به، ونهيا عنه.

قال عطاء: طاعة الله والرسول: اتباع الكتاب والسنة وأولي الأمر منكم وهم الأئمة، والسلاطين، والقضاة، والولاة، وأمراء الحق، وولاة العدل، كالخلفاء الراشدين، ومن يقتدي بهم من المهتدين، وكل من كانت له ولاية شرعية، لا ولاية طاغوتية.

[ ص: 123 ] والمراد: طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه، ما لم تكن معصية ومخالفة لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال جابر بن عبد الله، ومجاهد: إن أولي الأمر: هم أهل القرآن، والعلم به، وبه قال مالك، والضحاك. وقيل: إنهم أصحاب محمد.

وعن ابن عباس: هم العلماء الذين يعلمون الناس معالم دينهم; أي : بمقتضى الكتاب والسنة.

والراجح القول الأول; لصحة الإخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالأمر بطاعة الأئمة والولاة، فيما كان لله وللمسلمين مصلحة، فإذا زال عن الكتاب والسنة فلا طاعة له، وإنما يجب طاعته فيما وافق الحق.

قال في "فتح البيان في مقاصد القرآن": ومن جملة ما استدل به المقلدة هذه الآية، قالوا: وأولو الأمر: هم العلماء.

والجواب: أن للمفسرين في تفسيرها قولين: أحدهما: أنهم الأمراء، والثاني: أنهم العلماء كما تقدم.

ولا يمتنع إرادة الطائفتين من الآية الكريمة، ولكن أين هذا من الدلالة على مراد المقلدين; فإنه لا طاعة لأحدهما إلا إذا أمروا بطاعة الله على وفق سنة رسوله وشريعته.

وأيضا العلماء إنما أرشدوا غيرهم إلى ترك تقليدهم، ونهوهم عن ذلك، كما روي عن الأئمة الأربعة وغيرهم، فطاعتهم ترك تقليدهم.

ولو فرضنا أن في العلماء من يرشد الناس إلى التقليد، ويرغبهم فيه، لكان يرشد إلى معصية الله، ولا طاعة [له] بنص الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

[ ص: 124 ] وإنما قلنا: إنه يرشد إلى معصية الله; لأن من أرشد هؤلاء العامة الذين لا يعقلون الحجج، ولا يعرفون الصواب من الخطأ إلى التمسك بالتقليد، كان هذا الإرشاد منه مستلزما لإرشادهم إلى ترك العمل بالكتاب والسنة إلا بواسطة آراء العلماء الذين يقلدونهم، فما عملوا به عملوا به، وما لم يعملوا به لم يعملوا به، ولا يلتفتون إلى كتاب وسنة، بل من شروط التقليد الذي أصيبوا به أن يقبل من إمامه رأيه، ولا يعول على روايته، ولا يسأله عن كتاب ولا سنة، فإن سأله عنهما، خرج عن التقليد; لأنه قد صار مطالبا بالحجة.

ومن جملة ما يجب فيه طاعة أولي الأمر: تدبير الحروب التي تدهم الناس، والانتفاع بآرائهم فيها وفي غيرها، من تدبير أمر المعاش، وجلب المصالح، ودفع المفاسد الدنيوية.

ولا يبعد أن تكون هذه الطاعة في هذه الأمور التي ليست من الشريعة، هي المرادة بالأمر بطاعتهم; لأنه لو كان المراد طاعتهم في الأمور التي شرعها الله ورسوله، لكان ذلك داخلا تحت طاعة الله وطاعة رسوله.

ولا يبعد أيضا أن تكون الطاعة لهم في الأمور الشرعية في مثل الواجبات المخيرة، وواجبات الكفاية.

فإذا أمروا بواجب من الواجبات المخيرة وألزموا بعض الأشخاص الدخول في واجبات الكفاية، لزم ذلك، فهذا أمر شرعي وجب فيه الطاعة.

وبالجملة: فهذه الطاعة لأولي الأمر المذكورة في الآية، هي الطاعة التي تثبت في الأحاديث المتواترة في طاعة الأمراء ما لم يأمروا بمعصية الله، أو يرى المأمور كفرا بواحا.

فهذه الأحاديث مفسرة لما في الكتاب العزيز، وليس ذلك من التقليد في شيء، بل هو في طاعة الأمراء، الذين غالبهم الجهل والبعد عن العلم في تدبير المحاربات وسياسات الأجناد، وجلب مصالح العباد.

وأما الأمور الشرعية المحضة، فقد أغنى عنها كتاب الله العزيز، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

[ ص: 125 ] وهذا الذي سقناه هو عمدة أدلة المجوزين للتقليد، وقد أبطلناه كما عرفت، ولهم شبه غير ما سقناه، وهي دون ما حررناه. انتهى.

فإن تنازعتم المنازعة: المجاذبة، والنزع: الجذب، كأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويجذبها. والمراد بها: الاختلاف والمجادلة.

والظاهر: أنه خطاب مستقل مستأنف موجه للمجتهدين، ولا يصح أن يكون لأولي الأمر إلا عن طريق الالتفات، وليس المراد: فإن تنازعتم أيها الرعايا مع أولي المجتهدين; لأن المقلد ليس له أن ينازع المجتهد في حكمه، قاله أبو السعود، والأولى ما قدمناه.

وظاهر قوله: في شيء يتناول أمور الدنيا والدين، ولكنه لما قال: فردوه إلى الله والرسول ، تبين به أن الشيء المتنازع فيه يختص بأمور الدين، دون أمور الدنيا.

والمعنى: في شيء غير منصوص نصا صريحا من الأمور المختلف فيها; كندب الوتر، وضمان العارية، ونحوهما.

والرد إلى الله: هو الرد إلى كتابه العزيز، والرد إلى الرسول: هو الرد إلى سنته المطهرة بعد موته، وأما في حياته، فالرد إليه: سؤاله، هذا معنى الرد إليهما.

وقيل: معنى الرد: أن يقول لما لا يعلم: الله ورسوله أعلم، وهو قول ساقط، وتفسير بارد.

وليس الرد في هذه الآية إلا الرد المذكور في قوله تعالى: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم : [النساء: 83].

التالي السابق


الخدمات العلمية