الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين

                                                                                                                                                                                                                                      قل يا أهل الكتاب مخاطبا للفريقين .

                                                                                                                                                                                                                                      لستم على شيء ; أي : دين يعتد به ، ويليق بأن يسمى شيئا لظهور بطلانه ووضوح فساده ، وفي هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غاية وراءه .

                                                                                                                                                                                                                                      حتى تقيموا التوراة والإنجيل ; أي : تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وشواهد نبوته ، فإن إقامتهما إنما تكون بذلك ، وأما مراعاة أحكامهما المنسوخة فليست من إقامتهما في شيء ، بل هي تعطيل لهما ورد لشهادتهما ; لأنهما شاهدان بنسخها وانتهاء وقت العمل بها ; لأن شهادتهما بصحة ما ينسخها شهادة بنسخها ، وخروجها عن كونها من أحكامهما ، وأن أحكامهما ما قرره النبي الذي بشر فيهما ببعثته ، وذكر في تضاعيفهما نعوته ، فإذن إقامتهما بيان شواهد النبوة ، والعمل بما قررته الشريعة من الأحكام .

                                                                                                                                                                                                                                      كما يفصح عنه قوله تعالى : وما أنزل إليكم من ربكم ; أي : القرآن المجيد بالإيمان به ، فإن إقامة الجميع لا تتأتى بغير ذلك ، وتقديم إقامة الكتابين على إقامته ، مع أنها المقصودة بالذات لرعاية حق الشهادة ، واستنزالهم عن رتبة الشقاق ، وإيراده بعنوان الإنزال إليهم ، لما مر من التصريح بأنهم مأمورون بإقامته والإيمان به ، لا كما يزعمون من اختصاصه بالعرب .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي إضافة " الرب " إلى ضمير " هم " ما أشير إليه من اللطف في الدعوة . وقيل : المراد بما [ ص: 62 ] أنزل إليهم : كتب أنبياء بني إسرائيل كما مر . وقيل : الكتب الإلهية ، فإنها بأسرها آمرة بالإيمان لمن صدقته المعجزة ، ناطقة بوجوب الطاعة له .

                                                                                                                                                                                                                                      روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن جماعة من اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألست تقرأ أن التوراة حق من عند الله تعالى ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " بلى " ، فقالوا : فإنا مؤمنون بها ولا نؤمن بغيرها ، فنزلت .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا جملة مستأنفة مبينة لشدة شكيمتهم ، وغلوهم في المكابرة والعناد ، وعدم إفادة التبليغ نفعا ، وتصديرها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيق مدلولها ، والمراد بالكثير المذكور : علماؤهم ورؤساؤهم ، ونسبة الإنزال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسبته فيما مر إليهم ; للإنباء عن انسلاخهم عن تلك النسبة .

                                                                                                                                                                                                                                      فلا تأس على القوم الكافرين ; أي : لا تتأسف ولا تحزن عليهم ; لإفراطهم في الطغيان والكفر بما تبلغه إليهم ، فإن غائلته آيلة إليهم ، وتبعته حائقة بهم لا تتخطاهم ، وفي المؤمنين مندوحة لك عنهم ، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية