الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الإمام الشافعي يذم التقليد وينهى عنه

والمقصد الثالث: فيما قاله الشافعي -رحمه الله- وأصحابه.

روى محمد بن محمد بن سنة بسنده إلى الشافعي: أنه سأله رجل عن مسألة، فقال: يروى عن النبي: أنه قال كذا وكذا.

فقال له السائل: يا أبا عبد الله! أتقول بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفر، وحال لونه، وقال: ويحك! أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا رويت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا ولم أقل: نعم على الرأس والعين؟!!.

وقال: ما من أحد إلا ويذهب عليه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل، فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو قولي. وجعل يردد هذا الكلام.

[ ص: 172 ] وروى البيهقي بسنده عنه -رضي الله عنه-: أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله، فقولوا بسنته، ودعوا ما قلت.

وعنه: إذا حدث الثقة عن الثقة، حتى ينتهي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو ثابت عنه، لا يترك له حديث أبدا.

وعنه: إذا كان الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا مخالف له عنه، وكان يروى عمن دونه -صلى الله عليه وسلم- حديث يوافقه، لم يزده قوة، وحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- مستغن بنفسه.

وإذا كان يروى عمن دونه -صلى الله عليه وسلم- حديث يخالفه لم يلتفت إلى ما خالفه، وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤخذ به، ولو علم من روى عنه خلاف سنته، اتبعها.

وعنه قال: أقاويل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا تفرقوا فيها، نصير منها إلى ما وافق الكتاب والسنة.

وقال: ما كان الكتاب والسنة موجودين، فالعذر على من سمعهما مقطوع إلا اتباعهما.

قال: ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة، وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من الأعلى.

وقال: إذا قال الرجلان في شيء قولين مختلفين، نظرت، فإن كان قول أحدهما أشبه بكتاب الله، أو أشبه بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذت به; لأن معه شيئا يقوى بمثله، وليس مع الذي يخالفه مثله.

قال الإمام أحمد: قال لي الشافعي: أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون، كوفيا أو بصريا أو شاميا، حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا.

قال البيهقي: ولهذا أكثر أخذه بالحديث، وأنه جمع علم أهل الحجاز، والشام، واليمن، والعراق، وأخذ بجميع ما صح عنده من غير محاباة منه، ولا ميل إلى ما استحلاه من مذهب أهل بلده، مهما بان له الحق في غيره.

قال: وقال الشافعي: ليس للحاكم أن يولي الحكم أحدا، ولا لمولى الحكم [ ص: 173 ] أن يقبله، ولا للوالي أن يولي أحدا، ولا للمفتي أن يفتي، حتى يجمع أن يكون عالما بالكتاب، وبالسنن، وبأقاويل العلماء، قديما وحديثا، عالما بلسان العرب.

وقال: حكم الله، ثم حكم رسوله، ثم حكم المسلمين، دليل على أنه لا يجوز لمن استأهل أن يكون حاكما، أو مفتيا أن يحكم أو يفتي إلا من جهة خبر لازم، وذلك الكتاب، ثم السنة، وما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه، ولا يجوز أن يحكم أو يفتي بالاستحسان.

وعنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله، فقولوا بسنته -صلى الله عليه وسلم- ودعوا ما قلت.

قال الربيع: روى الشافعي حديثا، فقال له رجل: تأخذ بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال: متى رويت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثا صحيحا، فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب، وأشار بيده على رؤوس الجماعة.

وعنه قال: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد.

وقد صح عنه: أنه قال: لا قول لأحد مع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حكاها البيهقي في كتاب "المدخل".

وفي "إعلام الموقعين" عنه، قال: أنا أعطيتك جملة تغنيك -إن شاء الله تعالى- لا تدع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثا أبدا، إلا أن يأتي عن رسول الله حديث خلافه، فتعمل بما قررت لك في الأحاديث إذا اختلفت.

وعنه قال: إذا وجدتم سنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلاف قولي، فإني أقول بها.

وقال: كل مسألة فيها صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث عند أهل النقل، بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي.

[ ص: 174 ] وعن حرملة بن يحيى: قال الشافعي: ما قلت، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال بخلاف قولي، فما صح من حديث النبي أولى، ولا تقلدوني.

وقال الحميدي: سأل رجل الشافعي عن مسألة، فأفتاه، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا وكذا.

فقال الرجل: أتقول بهذا يا أبا عبد الله؟

فقال الشافعي: أرأيت في وسطي زنارا؟!! أتراني خرجت من الكنيسة؟! أقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول لي: أتقول بهذا؟!

روي هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أقول به؟!!

قال الربيع: قال الشافعي: لم أسمع أحدا نسبته إلى العلم، أو نسبته العامة إلى العلم، أو نسب نفسه إلى العلم يحكي خلافا في أن فرض الله تعالى اتباع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتسليم لحكمه، فإن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله وسنة رسوله، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن الله فرض علينا وعلى من بعدنا وقبلنا قبول الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله تعالى.

قال أحمد: قال لنا الشافعي: إذا صح عندكم الحديث، فقولوا لي، أذهب إليه.

قال: وكان أحسن أمر الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده، قال به، وترك قوله.

قال الربيع: قال الشافعي: لا تترك الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يدخله القياس، ولا موضع له مع السنة.

وأما كلام الأئمة الشافعية، فكثير جدا، ذكر جملة صالحة منها الفلاني في "إيقاظ الهمم" فراجعه.

التالي السابق


الخدمات العلمية