الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان أسباب عدم إقبال الناس على المجتهدين واغترار العامة وجهلة الحكام والأمراء بالمقلدين

ومما يدعو العلماء إلى مهاجرة أكابر العلماء ومقاطعتهم: أنهم يجدونهم غير راغبين في علم التقليد، الذي هو رأس مال فقهائهم وعلمائهم والمفتين منهم، بل يجدونهم مشتغلين بعلوم الاجتهاد، وهي عند هؤلاء المقلدة ليست من العلوم النافعة، بل العلوم النافعة - عندهم - هي التي يتعجلون نفعها بقبض جرايات التدريس وأجرة الفتاوى، ومقررات القضاء.

ومع هذا، فمن كان من هؤلاء المقلدة متمكنا من تدريسهم في علم التقليد إذا درسهم في مسجد من المساجد، أو في مدرسة من المدارس، اجتمع عليه منهم جمع يقارب المائة أو يجاوزها، من قوم قد ترشحوا للقضاء والفتيا، وطمعوا في نيل الرياسة الدنيوية، أو أرادوا حفظ ما قد ناله سلفهم من الرياسة وبقاء مناصبهم، والمحافظة على التمسك بها، كما كان عليه أسلافهم.

فهم لهذا القصد يلبسون الثياب الرفيعة، ويديرون على رؤوسهم عمائم كالروابي.

فإذا نظر العامي، أو السلطان، أو بعض أعوانه إلى تلك الحلقة البهية، [ ص: 208 ] المشتملة على العدد الكثير، والملبوس الشهير، والدفاتر الضخمة، لم يبق عنده شك أن شيخ تلك الحلقة ومدرسها أعلم الناس.

فيقبل قوله في كل أمر يتعلق بالدين، ويؤهله لكل مشكلة، ويرجو منه من القيام بالشريعة ما لا يرجوه من العالم على الحقيقة، المبرز في علم الكتاب والسنة وسائر العلوم، التي يتوقف فهم المعلمين عليها.

ولا سيما غالب المبرزين من العلماء تحت ذيل الخمول.

إذا درسوا في علم من علوم الاجتهاد، فلا يجتمع عليهم في الغالب إلا الرجل والرجلان والثلاثة; لأن البالغين من الطلبة إلى هذه الرتبة، المستعدين لعلم الاجتهاد، وهو أقل قليل ; لأنه لا يرغب في علم الاجتهاد إلا من أخلص النية وطلب العلم لله - عز وجل -، ورغب عن المناصب الدنيوية، وربط نفسه برباط الزهد، وألجم نفسه بلجام القنوع.

فلينظر العاقل أين يكون محل هذا العالم على التحقيق، عند أهل الدنيا إذا شاهدوه في زاوية من زوايا المسجد، وقد قعد بين يديه رجل ورجلان، من محل ذلك المقلد الذي اجتمع عليه المقلدون، فإنهم ربما يعتقدون أنه كواحد من تلامذة المقلد، أو يقصر عنه; لما يشاهدونه من الأوصاف التي قدمنا ذكرها، ومع هذا، فإنهم لا يقفون على فتوى من الفتاوى، أو سجل من الأسجال إلا وهو بخط أهل التقليد، ومنسوب إليهم، فيزدادون لهم - بذلك - تعظيما، ويقدمونهم على علماء الاجتهاد في كل إصدار وإيراد.

فإذا تكلم عالم من علماء الاجتهاد - والحال هذه - بشيء يخالف ما يعتقده المقلدة، قاموا عليه قومة جاهلية، ووافقهم على ذلك أهل الدنيا وأرباب السلطان.

فإذا قدروا على الإضرار به في بدنه وماله، فعلوا ذلك .

وهم بفعلهم مشكورون عند أبناء جنسهم ; من العامة والمقلدة; لأنهم قاموا بنصرة الدين - بزعمهم -، وذبوا عن الأئمة المتبوعين، وعن مذاهبهم التي قد اعتقدها أتباعهم.

[ ص: 209 ] فيكون لهم بهذه الأفعال التي هي عين الجهل والضلال من الجاه والرفعة عند أبناء جنسهم ما لم يكن في حساب.

وأما ذلك العالم المحقق المتكلم بالصواب، فبالحري أن ينجو من شرهم، ويسلم من ضرهم.

وأما عرضه، فيصير عرضة للشتم، والتبديع، والتجهيل، والتضليل.

فمن ذا ترى ينصب نفسه للإنكار على هذه البدعة، ويقوم في الناس بتبطيل هذه الشنعة، مع كون الدنيا مؤثرة، وحب الشرف والمال يميل بالقلوب على كل حال؟!!

فانظر أيها المنصف بعين الإنصاف، هل يعد سكوت علماء الاجتهاد عن إنكار بدعة التقليد مع هذه الأمور موافقة لأهلها على جوازها؟!!

كلا والله، فإنه سكوت تقية، لا سكوت موافقة مرضية .

ولكنهم - مع سكوتهم عن التظاهر بذلك - لا يتركون بيان ما أخذ الله عليهم بيانه، فتارة يصرحون بذلك في مؤلفاتهم، وتارة يلوحون به، وكثير منهم يكتم ما يصرح به من تحريم التقليد إلى ما بعد موته.

كما روى الأدفوي عن شيخه الإمام ابن دقيق العيد: أنه طلب منه ورقا، وكتبها في مرض موته، وجعلها تحت فراشه، فلما مات، أخرجوها، فإذا هي في تحريم التقليد مطلقا.

ومنهم من يوضح ذلك لمن يثق به من أهل العلم، ولا يزالون متوارثين لذلك بينهم طبقة بعد طبقة، يوضحه السلف والخلف، ويبينه الكامل للمقصر.

وإن انحجب ذلك عن أهل التقليد، فهو غير محتجب عن غيرهم.

[ ص: 210 ] وقد رأينا في زمننا مشايخنا المشتغلين بعلوم الاجتهاد، فلم نجد فيهم واحدا منهم يقول: إن التقليد صواب.

ومنهم من صرح بإنكار التقليد من أصله، وأنكر في كثير من المسائل التي يعتقدها المقلدون، فوقع بينه وبين أهل عصره قلاقل وزلازل، ونالهم من الامتحان ما فيه توفير أجورهم، وهكذا حال أهل سائر الديار في جميع الأعصار .

وبالجملة: فهذا أمر يشاهده كل أحد في زمنه، فإنا لم نسمع بأن أهل مدينة من المدائن الإسلامية أجمعوا أمرهم على ترك التقليد واتباع الكتاب والسنة، لا في هذا العصر، ولا فيما تقدمه من العصور بعد ظهور المذاهب .

بل أهل البلاد الإسلامية أجمع أكتع، مطبقون على التقليد.

ومن كان منهم منتسبا إلى العلم، فهو إما أن يكون غلب عليه معرفة ما هو مقلد فيه، وهذا هو عند أهل التحقيق ليس من أهل العلم.

وإما أن يكون قد اشتغل ببعض علوم الاجتهاد، ولم يتأهل للنظر، فوقف تحت ربقة التقليد ضرورة لا اختيارا .

وإما أن يكون عالما مبرزا، جامعا لعلوم الاجتهاد، فهذا الذي يجب عليه أن يتكلم بالحق، ولا يخاف في الله لومة لائم إلا لمسوغ شرعي.

التالي السابق


الخدمات العلمية