الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها )

قال أبو جعفر : دللنا فيما مضى قبل على أن العظام التي أمر بالنظر إليها هي عظام نفسه وحماره ، وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويل ذلك ، وما يعني كل قائل بما قاله في ذلك بما أغنى عن إعادته .

وأما قوله : ( كيف ننشزها ) فإن القرأة اختلفت في قراءته .

فقرأ بعضهم : ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) بضم النون وبالزاي ، وذلك قراءة عامة قرأة الكوفيين ، بمعنى : وانظر كيف نركب بعضها على بعض ، وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم .

وأصل " النشوز " : الارتفاع ، ومنه قيل : " قد نشز الغلام " إذا ارتفع [ ص: 476 ] طوله وشب ، ومنه " نشوز المرأة " على زوجها . ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض : " نشز ونشز ونشاز " فإذا أردت أنك رفعته ، قلت : " أنشزته إنشازا " و " نشز هو " إذا ارتفع .

فمعنى قوله : ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) في قراءة من قرأ ذلك بالزاي : كيف نرفعها من أماكنها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد .

وممن تأول ذلك هذا التأويل جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

5948 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : ( كيف ننشزها ) كيف نخرجها .

5949 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( كيف ننشزها ) قال : نحركها .

وقرأ ذلك آخرون : " وانظر إلى العظام كيف ننشرها " بضم النون . قالوا : من قول القائل : " أنشر الله الموتى فهو ينشرهم إنشارا " وذلك قراءة عامة قرأة أهل المدينة ، بمعنى : وانظر إلى العظام كيف نحييها ، ثم نكسوها لحما .

ذكر من قال ذلك :

5950 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كيف ننشرها " قال : انظر إليها حين يحييها الله . [ ص: 477 ]

5951 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

5952 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مثله .

5953 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " وانظر إلى العظام كيف ننشرها " قال : كيف نحييها .

واحتج بعض قرأة ذلك بالراء وضم نون أوله بقوله : ( ثم إذا شاء أنشره ) [ عبس : 22 ] ، فرأى أن من الصواب إلحاق قوله : " وانظر إلى العظام كيف ننشرها " به .

وقرأ ذلك بعضهم : " وانظر إلى العظام كيف ننشرها " بفتح النون من أوله وبالراء . كأنه وجه ذلك إلى مثل معنى نشر الشيء وطيه . وذلك قراءة غير محمودة ؛ لأن العرب لا تقول : نشر الموتى ، وإنما تقول : " أنشر الله الموتى " فنشروا هم " بمعنى : أحياهم فحيوا هم . ويدل على ذلك قوله : ( ثم إذا شاء أنشره ) وقوله : ( أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ) [ الأنبياء : 21 ] وعلى أنه إذا أريد به حيي الميت وعاش بعد مماته قيل : " نشر " ومنه قول أعشى بني ثعلبة : .


حتى يقول الناس مما رأوا : يا عجبا للميت الناشر

[ ص: 478 ]

وروي سماعا من العرب : " كان به جرب فنشر " إذا عاد وحيي .

قال أبو جعفر : والقول في ذلك عندي أن معنى " الإنشاز " ومعنى " الإنشار " متقاربان ؛ لأن معنى " الإنشاز " : التركيب والإثبات ورد العظام إلى العظام ، ومعنى " الإنشار " إعادة الحياة إلى العظام . وإعادتها لا شك أنه ردها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها . فهما - وإن اختلفا في اللفظ - فمتقاربا المعنى . وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئا يقطع العذر ويوجب الحجة ، فبأيهما قرأ القارئ فمصيب ؛ لانقياد معنييهما ، ولا حجة توجب لإحداهما القضاء بالصواب على الأخرى . [ ص: 479 ]

فإن ظن ظان أن " الإنشار " إذا كان إحياء فهو بالصواب أولى ؛ لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنشر إنما أمر به ليرى عيانا ما أنكره بقوله : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) ؟ [ فقد أخطأ ] . فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع إنما عني به ردها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه ، وهو يحيى ؛ لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات . والذي يدل على ذلك قوله : ( ثم نكسوها لحما ) . ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشزت بعد أن كسيت اللحم .

وإذ كان ذلك كذلك وكان معنى " الإنشاز " تركيب العظام وردها إلى أماكنها من الجسد ، وكان ذلك معنى " الإنشار " ، وكان معلوما استواء معنييهما ، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه ، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه .

وأما القراءة الثالثة ، فغير جائزة القراءة بها عندي ، وهي قراءة من قرأ : " كيف ننشرها " بفتح النون وبالراء ؛ لشذوذها عن قراءة المسلمين ، وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية