الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 481 ] القول في تأويل قوله ( فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ( 259 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : ( فلما تبين له ) فلما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك . ( قال : أعلم ) الآن بعد المعاينة والإيضاح والبيان . ( أن الله على كل شيء قدير ) .

ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله : ( قال أعلم أن الله ) .

فقرأه بعضهم : " قال اعلم " على معنى الأمر بوصل " الألف " من " اعلم " وجزم " الميم " منها . وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة . ويذكرون أنها في قراءة عبد الله : " قيل اعلم " على وجه الأمر من الله للذي أحيي بعد مماته ، فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته . وكذلك روي عن ابن عباس .

5954 - حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال : حدثنا القاسم بن سلام قال : حدثني حجاج ، عن هارون قال : هي في قراءة عبد الله : " قيل اعلم أن الله " على وجه الأمر . [ ص: 482 ]

5955 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه - أحسبه شك أبو جعفر الطبري - سمعت ابن عباس يقرأ : " فلما تبين له قال اعلم " قال : إنما قيل ذلك له .

5956 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذكر لنا - والله أعلم - أنه قيل له : " انظر " فجعل ينظر إلى العظام كيف يتواصل بعضها إلى بعض ، وذلك بعينيه ، فقيل : " اعلم أن الله على كل شيء قدير " .

قال أبو جعفر : فعلى هذا القول تأويل ذلك : فلما تبين من أمر الله وقدرته ، قال الله له : اعلم الآن أن الله على كل شيء قدير . ولو صرف متأول قوله : " قال اعلم " - وقد قرأه على وجه الأمر - إلى أنه من قبل المخبر عنه بما اقتص في هذه الآية من قصته كان وجها صحيحا ، وكان ذلك كما يقول القائل : " اعلم أن قد كان كذا وكذا " على وجه الأمر منه لغيره وهو يعني به نفسه .

وقرأ ذلك آخرون : ( قال أعلم ) على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به ، بهمز ألف " أعلم " وقطعها ، ورفع الميم ، بمعنى : فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه ، قال المتبين ذلك :

أعلم الآن أنا أن الله على كل شيء قدير .

وبذلك قرأ عامة قرأة أهل المدينة ، . وبعض قرأة أهل العراق . وبذلك من [ ص: 483 ] التأويل تأوله جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

5957 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه قال : لما عاين من قدرة الله ما عاين ، قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5958 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : ( فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5959 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : بعين نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يعني إنشاز العظام - فقال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5960 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قال عزير عند ذلك - يعني عند معاينة إحياء الله حماره - ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5961 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : جعل ينظر إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض ، ( فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5962 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، نحوه .

وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : " اعلم " بوصل [ ص: 484 ] " الألف " وجزم " الميم " على وجه الأمر من الله - تعالى ذكره - للذي قد أحياه بعد مماته ، بالأمر بأن يعلم أن الله - الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه من إحيائه إياه وحماره بعد موت مائة عام وبلائه حتى عادا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما ، وحفظه عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى رده عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير - على كل شيء قادر كذلك .

وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره ; لأن ما قبله من الكلام أمر من الله - تعالى ذكره - : قولا للذي أحياه الله بعد مماته ، وخطابا له به ، وذلك قوله : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) ، فلما تبين له ذلك جوابا عن مسألته ربه : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) قال الله له : " اعلم أن الله " الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت على غير ذلك من الأشياء قدير كقدرته على ما رأيت وأمثاله ، كما قال - تعالى ذكره - لخليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله : ( رب أرني كيف تحيي الموتى ) ( واعلم أن الله عزيز حكيم ) . فأمر إبراهيم بأن يعلم ، بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى ، أنه عزيز حكيم . فكذلك أمر الذي سأل فقال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) ؟ بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها أن يعلم أن الله على كل شيء قدير .

التالي السابق


الخدمات العلمية