الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 406 ] فتأمل في مبناه ومعناه، يا أيها الإنسان، إن بقي فيك بقية من الإيمان، أو خوف من الرحمن رواه الترمذي، وأبو داود.

قلت: والفحم بالفارسية "انكشت" ، و "الجعل" - بضم الجيم وفتح العين-: دويبة سوداء تدير الغائط يقال لها: الخنفساء.

وعن الحسن عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحسب المال، والكرم التقوى" رواه الترمذي، وابن ماجه.

وفي سماع الحسن البصري عن سمرة خلاف ومقال معروف.

والحديث دل على أن الكرامة هي التقاوة، وأن المال هو الحسب، ويؤيده قوله تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات: 13]، فأطلق الإكرام على التقوى.

والمعنى: الحسب ينحصر في المال، وهذا عند الناس، إذ لا حسب للفقير عندهم، وإن بلغ في الكمال أي مبلغ.

والكرم منحصر في التقوى، وهذا عند الله، وما عند الله خير للأبرار، وما عند الناس يعد من التفاخر في الأشرار.

وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنسابكم ليست بمسبة على أحد" ; أي: محل سب وسبب عار، "كلكم بنو آدم طف الصاع بالصاع" ; أي: ملابسا له، مقابلا به.

وطفه، وطفافه: قربه من أن يمتلئ ولم يمتلئ، والتطفيف: النقصان في المكيل. أي: كلكم بمنزلة واحدة في النقص والتقاصر عن غاية التمام; لكونكم أولادا من هو مخلوق من التراب، كالمكيل الذي لم يبلغ أن يملأ مكيالا. كذا في "النهاية" ..

قال: علي القاري: معناه: كلكم متساوون في النسبة إلى أب واحد، متقاربون كتقارب ما في الصاع وتساويه للصاع، إذا لم يملأ مملئا تاما حتى يزداد [ ص: 407 ] عليه. هذا معنى قوله: لم تملؤوه، فيكون من باب التشبيه البليغ.

ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى" .

وهذا قول فصل، نطق به رسول الأمة، ونبي الرحمة، وكفى به فصلا للخصومة، كما قيل: "لا عطر بعد عروس" .

فمن لم يقبل هذه العدالة منه صلى الله عليه وسلم، وأثبت الفضل بالنسب، فهو مشاقق لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

نعم، إذا جمع أحد بين فضيلة النسب والحسب، وشرافة الذات، وكرامة الصفات، فهو أفضل من غيره، باعتبار هذه الإضافات دون العبرة بأصل الحقيقة والذات.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث: "كفى بالرجل أن يكون بذيئا فاحشا بخيلا" رواه أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان" ، وفيه ذم اللسان الطويل، الناطق بالفخر بالنسب الجليل، والحسب الجميل، وغيرها بالإجمال والتفصيل، وذم الرجل الفاحش البخيل.

وقد دل الحديث على أن أنواع البشر كلهم سواسية في النسب، وفي الذات، وفي الأصل، وليس النسب بآلة السباب على أحد منهم، كائنا من كان، وفي أي زمان ومكان كان.

وحاصل الكلام في هذا المقام على هذا المرام: أن الإنسان نسبهم واحد، لا اختلاف فيه عند أحد من أهل الملل والنحل، والنهى والعقول.

وإنما تفرقوا من جهة الله، وكانوا شعوبا وقبائل، لحكم ومصالح لا بد منها في هذه الدار، وهي صلة الأرحام، وتأدية الديات، والاحتفال بذوي القرابة من الأقوام، لا لأن يفتخر أحد على أحد، ويزدري بعضهم بعضا في النسب; فإن [ ص: 408 ] هذا من عادة الجاهلية، والإسلام جاء لمحوها وعفوها، لا لإثباتها وإبقائها.

فأهل العلم والتقوى عملوا بهذه الأحاديث، وتركها أهل الدعاوى الطويلة العريضة من أولاد المشايخ والصلحاء، والعلماء، والملوك والأمراء.

فبنوا امتياز الناس بعضهم عن بعض على مدارج الأنساب، ومعارج الذوات، ولم يبالوا بإيثار العلم والتقاوة والطهارة، التي جعلها الله سبحانه، ورسوله صلى الله عليه وسلم، معيارا لفضيلة المرء والمرأة على غيرهما وشرافتهما وكرامتهما.

فكان هذه شيمة الجاهلية دخلت في الإسلام من بعد الصدر الأول والقرون المشهود لها بالخير.

هؤلاء العباسية خلفاء الأرض، كان أكثرهم أولاد الإماء.

وهؤلاء أئمة العترة، لا سيما الاثنا عشر منهم، كانت والداتهم سراري.

وهؤلاء علماء الإسلام ولدتهم الجواري.

وهؤلاء رواة الأخبار، ورجال الآثار، غالبهم الموالي، وأهل الحرفة. فالمسلمون كلهم كذلك، إلا ما شاء الله تعالي.

وليس في الدنيا سيد من السادات، أو عباسي من العباسية، أو أموي من بني أمية، أو قرشي من قريش إلا وفي أنسابه من آبائه وأمهاته، من هو دعي أو دخيل، أو مملوكة، أو عجمية، أو تركية، أو غيرها من نسوة العالم.

فكيف تصح هذه الدعاوي الباطلة من هؤلاء المفتخرين بها، والحال هذه ؟!

وقد تكلم على هذه المسألة صاحب "دليل الطالب فيه، وفي غيره من مؤلفاته بما يشفي، ويكفي.

ومنها: إفراط التعظيم فيما بينهم، قال الله - تبارك وتعالى -: فلا تزكوا أنفسكم ; أي: لا تمدحوها، ولا تثنوا عليها خيرا، ولا تنسبوها إلى زكاء العمل، وزيادة الخير والطاعات، وحسن الأعمال، واهضموها.

فإن ترك تزكية النفس أبعد من الرياء، وأقرب إلى الخشوع.

[ ص: 409 ] قال الحسن: علم الله من كل نفس ما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة، فلا تبرئوها من الآثام، ولا تمدحوها بحسن الأعمال.

وقيل: لا تزكوها رياء وخيلاء، ولا تقولوا لمن لم تعرفوا حقيقته: أنا خير منك، وأنا أزكى منك، أو أتقى منك، أو أعلم منك; فإن العلم عند الله.

وفيه إشارة إلى وجوب خوف العاقبة; فإن الله يعلم عاقبة من هو على التقوى.

أخرج أحمد، ومسلم، وأبو داود، عن زينب بنت أبي سلمة: أنها سميت برة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم، سموها زينب" .

هو أعلم بمن اتقى [النجم: 32] منكم ومن غيركم، قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم.

فمن جاهد نفسه، وخلصت منه التقوى، فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين، فكيف بمن صارت له التقوى وصفا ثانيا، وهو الذي ينتفع بها، ويثاب عليها ؟!

وقيل: نزلت في ناس كانوا يعملون أعمالا حسنة، ثم يقولون: صلاتنا، وصيامنا، وحجنا.

وعلى كل حال، فالآية دالة على النهي عن تزكية النفس بأي طريق كان، بالتسمية والألقاب; كالإمام الأعظم، وإمام الأئمة، وفخر الإسلام، وشمس الإسلام، وصدر الشريعة، وما في معنى ذلك.

وبالتمدح والفضيلة دعاء لنفسه، والتعظيم لها، وإظهار عظمها على غيرها.

وقال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [التوبة: 71]; أي: هم سواسية في الولاية، لا فوقية لأحدهم على أحد، حتى يعظم ذاته ويحقر أخاه المسلم.

[ ص: 410 ] وفي "فتح البيان" : قلوبهم متحدة في التوادد، والتحابب، والتعاطف، واتفاق الكلمة، والعون، والنصر بسبب ما جمعهم من أمر الدين، وضمهم من الإيمان بالله. انتهى.

وقال تعالى: إنما المؤمنون إخوة قال الزجاج: الدين يجمعهم، فهم إخوة إذا كانوا متفقين في دينهم، فرجعوا بالاتفاق في الدين إلى أصل النسب; لأنه لآدم وحواء، قال بعضهم:


أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تيم



وكان سلمان الفارسي إذا سئل عن الأب يقول: أنا ابن الإسلام.

وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت" ، ولنعم ما قيل.


القوم إخوان صدق بينهم سبب     من المودة لم يعدل به نسب



وذلك أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب، والنسب اللاصق، ما إن لم يفضل الأخوة، لم ينقص عنها.

ثم قد جرت العادة على أنه إذا نسب مثل ذلك بين الأخوين ولادا، لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإراحته بالصلح بينهما، فالإخوة في الدين أحق بذلك.

فأصلحوا بين أخويكم ; أي: بين كل مسلمين تخاصما وتقاتلا، واتقوا الله في كل أموركم لعلكم ترحمون [الحجرات: 10] بسبب التقوى.

والمقصود من إيراد هذه الآية هنا: أن علاقة الأخوة ثابتة بين جميع المسلمين، لا ترفع لأحد على أحد، حتى يحقر بعضهم بعضا.

وكيف يمكن الاحتقار، وهم من أب واحد، وأم واحدة ؟!.

وإنما يستنكف عن مثل هذه المماثلة، من ليس له عقل ولا دين، ونعوذ بالله من أن أكون من الجاهلين.

وفي الآية إثبات الأخوة على حد واحد، سواء كانوا عظماء في هذه الدار، أو أذلة في نظر الأغيار، حتى صح إطلاق لفظ "الأخ" في حق الأنبياء - عليهم [ ص: 411 ] السلام - بالنسبة إلى أممهم، كما في الكتاب العزيز أخاهم هودا [هود: 50]، أخاهم صالحا إلى غير ذلك.

ويؤيده حديث: "أكرموا أخاكم" . وفي الباب أدلة كثيرة واضحة، لا سترة عليها، وإن أباها أهل البدعة الزائغة. وقال تعالى: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين [التوبة: 11]. قال في "الفتح" : أي: إن تابوا عن الشرك وعن نقض العهد، إلى الوفاء به.

وقال قتادة: يقول: إن تركوا "اللات" و "العزى" ، وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، والتزموا أحكام الإسلام المفروضة، فهم إخوانكم في دين الإسلام، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم. انتهى.

أي: فهم وأنتم سواء، لا مزية لكم عليهم، ولا لهم عليكم.

وفيه: أن التفاوت بينهم مقيد بعدم التوبة، وعدم إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.

فإذا جاؤوا بهذه الأشياء المطلوبة منهم، فلا فرق بينهم وبين من كان عليها من أول الأمر.

وبهذا علم أن مدار التفرقة: التقوى والفجور، لا أنساب الجمهور. ولهذا أثبت الأخوة في الدين، لا في الطين; لأن المعتبر هو هذا، لا ذاك. وفيه نفي التعاظم والإفراط فيه، ورؤية نفسه أعظم من أخيه.

التالي السابق


الخدمات العلمية