الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 462 ] إرشاد الشارع إلى إيثار الزهد على الرفاهية وتنفيره عن الإغراق في التزين

وعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تسمعون ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان" رواه أبو داود.

المراد ب: "البذاذة" لبس الثوب الخلق، وعدم التكلف في الثياب.

يعني: إن من يريد الآخرة، ويهوى نعيمها، لا يختار التزين في الدنيا، ويراه لا فائدة فيه، فيلبس ما يجد من الثياب، رثة كانت أو خلقة أو مرقعة، ومن يريد الدنيا يتكلف لها. والأول من الإيمان، والآخر من علامة الخذلان.

ويزيده إيضاحا، حديث سويد بن وهب، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبيه يرفعه: "من ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه"، وفي رواية: تواضعا، كساه الله حلة الكرامة" الحديث. رواه أبو داود.

وروى الترمذي منه، عن معاذ بن جبل حديث اللباس، وجهالة الصحابي لا تضر. والحديث يصلح للاحتجاج به.

وفيه: فضيلة "البذاذة"، وترك اللباس الفاخر مع القدرة، وأن صاحبه يلبس حلة الإكرام يوم القيام.

وهذا يشير إلى أن الإفراط في التزين ينافي الكرامة عند الله تعالى. قال في "المرقاة": البذاذة: رثاثة الهيئة، وترك ما يدخل في باب الزينة.

والمراد بالحديث: أن التواضع في اللباس، والتوقي عن الفائق في الزينة من أخلاق أهل الإيمان، وهو الباعث عليه.

ففيه: اختيار الفقر والكسر، فلبس الخلق من الثياب من خلق المؤمنين بالكتاب، انتهى.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا، [ ص: 463 ] واشربوا، وتصدقوا، والبسوا، ما لم يخالط إسراف ولا مخيلة" أخرجه أحمد، والنسائي، وابن ماجه.

يعني: يجوز الأكل والشرب، والصدقة، واللباس، إذا خلت عن السرف، والكبر.

وهذا إذا لم يتلف حق أحد في الدنيا والدين، وإلا لم يجز ذلك، ويكون عاصيا لله، مستحقا لما عليه من العقاب.

ويؤيده حديث عبد الله بن بريدة، قال: قال رجل لفضالة بن عبيد: ما لي أراك شعثا؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن كثير من الإرفاه. قال: ما لي لا أرى عليك حذاء؟ (أي: نعلا؟) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأمرنا أن نحتفي أحيانا. رواه أبو داود.

فيه: الإرشاد إلى الزهد، وإيثاره على الرفاهية؛ لأن الإرفاه علامة حب الدنيا، وحبها يحرم الآدمي عن نعيم الآخرة.

فينبغي ألا يسترسل فيه، ويقدم البذاذة على التكلف في اللباس، ويحتفي أحيانا، اتباعا للسنة السنية، وإزالة لعادة الإرفاه.

وقد قال تعالى حكاية عنه صلى الله عليه وسلم وما أنا من المتكلفين [ص: 84]، وكان لا يرتضي زي أهل الترف، ويحب عدم التكلف في كل شيء.

فمن التزم التزين في كل حال، فقد خالف السنة.

ومن ترك الصفا والطهارة بالكلية، فقد خالف السنة أيضا، كما يفعله الفقراء الجهلة، والصوفية المبتدعة، من التزام لبس الخشن، وأكل الطعام الرديء، بل الحق بين الغالي والمقصر:


كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وعن سفينة مولى أم سلمة: أن رجلا أضاف علي بن أبي طالب؛ أي: نزل [ ص: 464 ] عليه شخص ضيف، فصنع له طعاما، فقالت فاطمة: لو دعونا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل معنا، فدعوه، فجاء، فوضع يديه على عضادتي الباب، فرأى القرام قد ضرب في ناحية البيت، فرجع. قالت فاطمة: فتبعته فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما ردك؟ قال: "إنه ليس لي، أو لنبي، أن يدخل بيتا مزوقا؛ أي: مزينا منقشا. رواه أحمد، وابن ماجه.

القرام: ثوب رقيق من صوف، فيه ألوان من الصور، والرقوم، والنقوش، يتخذ سترا يغشى به الأقمشة والهوادج، كما في كتاب "الإدراك".

تأمل في هذا الحديث، وأدرك أن سيد الرسل لم يدخل في بيت سيدة النساء؛ لكون هذا الثوب المنقش في ناحية منه، فثبت بهذا: أن تزويق البيوت، وتعليق الأقمشة الزجاجية، وإرخاء الستور المزينة، والسرادق الفاخرة، والبسط النفيسة، والكراسي الملمعة، والفوانيس اللامعة، والأشجار المزينة، ونحوها فيها، ليس من أخلاق أهل الدين، ولا يرتضيها سيد المرسلين، ينبغي للمتقي ألا يدخل بيتا فيه كذا وكذا، وقد كسيت جدرانها وعمادها باللباس وأنواع الثياب.

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكسو الحجارة والطين، سواء كان هذا البيت بيت السكنى، أو الديوان، أو المقبرة، أو المسجد، أو دار الفقير، أو مجلس أمير.

ومما ينعى به على الإسلام اليوم، إفراط الناس في تزيين الأمكنة والأمتعة، حتى المساجد التي بنيت للذكر والعبادة، فقد بالغوا في تشييدها وزخرفتها، كما كانت اليهود والنصارى تفعل.

وعمت بهذه البدعات، والمنكرات البلوى في الملة الإسلامية، أخذا من أهل الكتاب، ومن الهنود الذين يزوقون معابدهم الكفرية، ويحلونها بأنواع من الحلل والزينة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

يا أيها المسلمون! بالله عليكم، قولوا لنا: هل هذا هو الإسلام الذي جاء به [ ص: 465 ] رسولكم من عند الله، أم هذا مشاقة صريحة، ومضادة واضحة، مع الله ورسوله؟

وهل وقفتم على دليل يدل على جواز هذه المهلكات الموبقات، أم هذه دواوين الإسلام في السنة المطهرة تنادي بأعلى صوت، بأن هذه كلها من المنكرات والمحدثات.

وفيه: من سرف المال وبذل ذات اليد، والتبذير في معاصي الله، ما لا يقادر قدره.

هؤلاء غرباء الإسلام، وفقراء المسلمين، من العلماء، والصلحاء، يبيتون جائعين عاطشين، لا يقدرون على قوت في اليوم والليلة، ولا يجدون ما يسترون به سوءاتهم، وأنتم ترون أولئك، والحالة هذه، فلا تعطونهم ما يتمكنون به من شبع البطن، وري الكبد، وغطاء البدن العاري، وإنما تبذلون ما فضل من أموالكم في تحسين الديار والبيوت، وتكلف اللباس والقوت، وتزيين الحياة الدنيا، التي تفنى وتموت.

كيف تكون عاقبة أمركم، ونهاية صنعكم؟ ألستم مصداق قوله تعالى: الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [الكهف: 104].

أليس إلى الله مصيركم، فمن نصيركم، وفي القبر مقيلكم، فما قيلكم؟

اقرؤوا كتاب "الرقاق" من كتب السنة، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه خيرة الأمة، وعترته صفوة الملة، من العيش.

وتذكروا، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، إن كان بقي فيكم بقية من الحياء والإيمان، وإلا، فالله هو المستعان.

وعن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! إن أردت اللحوق بي، فيكفيك من الدنيا كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء"؛ أي: فضلا من أن تكون من أرباب الدنيا؛ لأن مجالستهم تجر إلى محبة الشهوات واللهوات، ولذا [ ص: 466 ] قيل: "لا تنظر إلى أرباب الدنيا؛ فإن بريق أموال الأغنياء يذهب بروق حلاوة الفقراء". وفيه تحريض لها على القناعة باليسير.

ولا تستخلفي ثوبا حتى ترقعيه"؛ أي: تخيطي عليه رقعة، ثم تلبسيه.

وفيه حث لها على الاكتفاء بالثوب الحقير، والتشبه بالمسكين الفقير. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صالح بن حسان.

قال محمد بن إسماعيل البخاري - رضي الله عنه -: صالح منكر الحديث.

وفي الجملة: فيه دلالة على إيثار الزهد في الدنيا، والبعد عن مصاحبة أهلها الأغنياء، وإرشاد إلى ترقيع الثوب، وأنه لا يخلق إلى أن يرقع، فإذا رقع، فقد صار خلقا.

قال بعض أهل العلم: دل الحديث على أن جمع أسباب الدنيا والاستنكاف من لبس الثوب الخلق المرقع، والجلوس عند أهل الثروة والغنى، ليس بفضيلة لا سيما في حق العلماء والمشايخ الصلحاء.

التالي السابق


الخدمات العلمية