الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الأسلوب التفصيلي

أما النهي التفصيلي عن كل واحد من الأبواب، فعن التشبه بالكفار، فلما روي عن ابن عمر، قال: قال رسول الله: "من تشبه بقوم فهو منهم" رواه أحمد، وأبو داود.

أي: من شبه نفسه بالكفار مثلا، في اللباس وغيره، أو بالفساق والفجار، أو بأهل التصوف والصلحاء الأبرار، فهو منهم؛ أي: في الإثم والخير.

قال الطيبي: هذا عام في الخلق والخلق، والشعار والدثار، وإذا كان الشعار أظهر في التشبه، ذكر في هذا الباب.

قال علي القاري: بل الشعار هو المراد بالتشبه، لا غير.

فإن الخلق الصوري لا يتصور فيه التشبه، والخلق المعنوي لا يقال فيه التشبه، بل هو التخليط. انتهى.

وأقول: هذا الحديث من جوامع الكلم، ويوانع الثمار؛ لأنه قد عم المشبه والمشبه بهم، من كان، وأينما كان. ولم يخص نوعا من أنواع التشبيه، ولا قوما من الأقوام المشبه بها.

فتحصل من ذلك أن كل متشبه بآخر في كل شيء، حقيرا كان أو جليلا، ظاهرا كان أو باطنا، له حكم المتشبه به في الكراهة والحرمة، والكفر.

وتفصيل ذلك يطول جدا لا يحصيه المقام.

وقد كفل لبيان بعضها شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني - رحمه الله - في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم"، وأتى فيه بأشياء تشابهت هذه الأمة فيها، غير الملة الإسلامية، والأمة المحمدية، واستوعب غالبها، ولعله فاته أشياء كثيرة لم تكن حدثت في زمنه الشريف، وظهرت بعده في هذه الأزمنة المتأخرة.

[ ص: 472 ] فرحم الله امرأ يجتهد لضبطها، ويصرح بأساميها، لمن يريد الله والدار الآخرة.

وأما أنا، ففي شغل شاغل عن ذلك، وقلة فرصة مما هنالك.

وقد أفرط الناس المسلمون في هذا العصر الحالي عن التقوى والدين، في التشبه بالمبتدعين والفاسقين والكافرين، إلا ما شاء الله، وهم قليل جدا في كثير، وعم بذلك البلاء، حتى لم يبق شخص ولا دار، ولا محلة، ولا بلد، ولا إقليم إلا وقد دخل فيه هذا الداء العضال، وعدوه من أسباب الجمال والكمال، فعرفوا مناكير، وأنكروا معاريف، وصارت القضية عكسا، ودخلت من هذا الباب في الإسلام غربة غريبة، وثلمة عجيبة.


ولن يصلح العطار ما أفسد الدهر



وحيث إن الظاهر عنوان الباطن، فالمتشبه بقوم في زيهم، وشكلهم، ولباسهم، وكلامهم، وطعامهم، ومجلسهم، وإيابهم وذهابهم، متشبه بهم في بواطن أموره بلا شك وشبهة.

لا يقال: إن ظاهره هذا لمصلحة دنيوية، وليس هكذا في السر.

لأن المؤمن ولي الله، وولي رسوله، لا يختار شيم أعداء الله وأعداء رسوله، وإن فاته ألف مصلحة من مصالح هذه الدار الفانية.

بل إنما دعته إلى هذا التشبه الواقع منه بهم، محبة أولئك، ومحبة مراسمهم ومواسمهم، ومودة خصالهم وأخلاقهم وشمائلهم.

وهي كلها مضادة للشريعة الحقة، مشاقة للملة الصادقة، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟!

والناس على دين ملوكهم، والدولة فتنة عظيمة لهم، وحب الدنيا رأس كل خطيئة.

ولا يتشبه أحد بأحد إلا للدنيا واكتسابها، فإذا حصلت له الدنيا بهذا التشبه [ ص: 473 ] والتماثل، ذهبت عنه آخرته بالقطع واليقين؛ لأنهما ضرتان، فإذا رضيت إحداهما، سخطت الأخرى.

وهذا الحديث، كما يفيد ذم هذا التشبه إذا كان بأهل غير الإسلام، من أهل الكتاب، والمجوس، والهنود وغيرهم، فهكذا يفيد - بمفهومه المخالف - أن المتشبه بالصلحاء، وبأهل الله ورسوله، من المحدثين النبلاء، والصوفية الأولياء، والفقهاء، والقراء، ونحوهم إذا لم يكن ذلك منه رياء، وسمعة، وشهرة في الناس، ورفعة للاسم، وترويجا للرسم، بل كان هذا منه إخلاصا بالدين لله - عز وجل -، وإيثارا لسنة سيد المرسلين، في اللباس والطعام، والفراش، والصلاة والصيام وغير ذلك، مما ورد به الشرع الشريف، كان هذا المتشبه في عداد من تشبه بهم، ونفعه ذلك، ولنعم ما قيل:


وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم     إن التشبه بالكرام فلاح

وإني والله أقول، وبه سبحانه وتعالى أجول وأصول:

أحب الصالحين ولست منهم     لعل الله يرزقني صلاحا



وعن ركانة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس" رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب إسناده، وليس بالقائم. انتهى.

وفيه دلالة على أن الكفار والمشركين يستعملون العمائم بلا قلنسوة، وأن المسلمين زيهم أن يلبسوها عليها.

وليس فيه أن لبس القلانس ممنوع، بل فيه فضيلة العمامة عليها، وألا يكون الاقتصار على واحد منهما أبدا، بل يجمع بينهما، ويتميز عن أقوام لا يلبسون العمائم أصلا، ويقنعون على القلانس فقط، كالنصارى، ومن ضاهاهم من [ ص: 474 ] أجيال أخرى، وعن أرهاط لا يلبسون القلانس، بل يستعملون العمائم فقط، كالهنود.

ومنهم من لا يلبس قلنسوة، ولا عمامة، بل يبقى مكشوف الرأس أبدا كأناس بنجالة" في الهند.

ومنهم من يجمع بينهما، لكن على زي الأعاجم دون العرب.

ومراده صلى الله عليه وسلم بالعمائم في هذا الحديث: هي التي كان يلبسها هو وأصحابه وتابعوهم، وهي مضبوط، مصرح بها في كتب السنة المطهرة، طولا وعرضا، مع بيان شأن الربط، وما يتصل به.

قال الجزري: قد تتبعت الكتب لأقف على قدر عمامة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم أقف، حتى أخبرني من أثق به أنه وقف على كلام النووي: أنه ذكر: كان له صلى الله عليه وسلم عمامة قصيرة، هي سبعة أذرع، وعمامة طويلة مقدارها اثنا عشر ذراعا.

قال في "المرقاة": المعنى: نحن نتعمم على القلانس، وهم يكتفون بالعمائم. انتهى. وأما اليوم، فإن رأيت العرب، ومن يساكنهم في الحرمين الشريفين - زاد الله شرفهما - أحدثوا لها أشكالا غير الشكل المأثور، وأفرطوا فيها، وفي غيرها من اللباس والثياب، حتى خرجوا عن زي الإسلام السالف، واختاروا ما شاؤوا من القلانس، والعمائم.

قال علي القاري في حق أهل مكة في زمنه: عمائم كالأبراج، وكمائم كالأخراج، انتهى.

وما أصدقه في هذه المقالة !! فقد وجدناهم كذلك، بل وجدناهم فوق ذلك؛ لأنه مضى على زمنه مئون، وللدهر في كل عصر فنون وشؤون، كما قيل: إن في كل بلد من بلادهم مئة مشية، ومئة لسان، ولا يقف عند أحد أحد من نوع إنسان، وما شاء الله كان.

[ ص: 475 ] وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم" متفق عليه.

أي: فاصبغوها أنتم بالحناء، المراد: اللحى، وتحميرها به.

والحديث يرشد إلى مخالفة أهل الكتاب ومن في حكمهم؛ كالمجوس في تغيير الشيب.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخالفهما في أكثر الأمور والشرائع والأشياء، ويحث الأمة على ذلك، ويحضهم عليها، ويرغبهم في ترك خصال هؤلاء المغضوب عليهم والضالين.

فأبى آخر الأمة إلا الموافقة بهم في غالب الأحوال والأفعال، والأعمال، والأقوال، طمعا في المال.

واختارت زيهم، وارتضت مرضيهم، في الملابس، والمآكل، والمساكن، والمشارب، إلى أن لو قيل فيهم وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ، لصدق على أولئك النفر.

وقد قال - سبحانه وتعالى -: ومن يتولهم منكم فإنه منهم .

وكم من آية بينة في القرآن الكريم تدل على الحث لنا على مخالفتهم، وكم من حديث صحيح يفيد ذلك إفادة واضحة لا غبار عليها !!وأخبرنا - سبحانه وتعالى - عن حالهم فقال: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم .

ثم نهانا عن اتباعهم، فقال: قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير [البقرة: 120].

فيا أيها الذين آمنوا بالله، واليوم الآخر، وأسلموا لحكم الكتاب والسنة! أين أنتم من هذه المخالفة حتى بدلتموها بالموافقة؟! أبفعل الجاهلية تأخذون، أو بصنيع الجاهلية تشبهون؟!

[ ص: 476 ] والله الذي لا إله غيره! لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم بين ظهرانيكم، لدعا عليكم دعوة، في غير صوركم ترجعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

التالي السابق


الخدمات العلمية