الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان حكم اتخاذ المراكب

وفي باب المراكب: ما روي عن سعيد بن هند عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكون إبل للشياطين، وبيوت للشياطين، فأما إبل الشياطين، فقد رأيتها، يخرج أحدكم بنجيبات منه قد أسمنها، فلا يعلو بعيرا منها، ويمر بأخيه قد انقطع به، فلا يحمله، وأما بيوت الشياطين، فلم أرها"، كان سعيد يقول: لا أراها إلا هذه الأقفاص التي يستر الناس بالديباج. رواه أبو داود.

والنجيبات: جمع "نجيبة"، وهي الناقة المختارة، ومعنى "يعلو": يركب. والمراد: أنها تكون معدة للتفاخر والتكاثر، لم يقصد به الركوب وإعانة الغير، كذا في "اللمعات".

والحديث يشمل كل مركب يكون كذلك، لا يختص بالإبل، ولا بالفرس، بل الخيل والبغال والحمير والإبل كلها سواسية في هذا الحكم.

والناس الأمراء كثيرا ما يعدون مثل هذا الحشم فخرا ورياء وسمعة، [ ص: 491 ] ويزينونها بأنواع من الزينة والحلي وغيرها، وهي تمشي بين أيديهم عند خروجهم من دور الإمارة وبيوت الدولة إلى التفرج في الحدائق، والذهاب إلى الأعياد والمواسم، واستقبال أمثالهم عند القدوم، وغير ذلك من الأوقات الخاصة المعينة لذلك، وليس على ظهورها أحد من الإنسان، بل يقودها الإنسان بالعنان، ويجتمع لمشاهدتها جمع جم من الرجال العامة، والنسوان والصبيان والغلمان على كل شارع وطريق وسكة نافذة في البلدان، وهذه هي التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبل الشيطان.

وأما بيوته، ففسرها راوي الحديث بالأقفاص. قال في "اللمعات": يريد به هذه الهوادج والمحامل المستورة بالديباج يأخذه أهل الأسفار في الأسفار. اهـ

قلت: ولا ضرورة إلى تقييد ذلك بالأسفار؛ فإن الإسراف والإفراط في التزين منهي عنه، سواء كان في الحضر، أو في السفر.

فمن ستر من ذلك شيئا بالثياب الغالية الثمن، وألبسه اللباس الحسن، وأبرزه في الوطن، واستعمله في مواطن العيش والعشرة، والتفاخر والتكاثر، فهو مصداق هذا الخبر، وهي بيوت الشيطان بلا مرية، ويدخل في هذه الأقفاص كل ما يصدق عليه أنه قفص أو بيت، ثم ستر بالديباج والحرير ونحوهما، وطلي بالذهب والفضة، وعبئ بالدرر واللآلئ والجواهر.

والحديث يدل على أن إعداد مثل هذه العدة ليس بفضيلة ولا شرف، بل هي سرف وتبذير منهي عنه؛ لمكان الرياء والمخيلة فيها، لكن إن حمل عليها أخاه المسلم عند حاجته إليها، ويبذلها له، يخف الإثم، وإن لم يذهب كله، والله أعلم.

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديث طويل يرفعه، قال: قيل: يا رسول الله! فالخيل ؟ قال: "الخيل ثلاثة:

1- هي لرجل وزر 2- وهي لرجل ستر 3- وهي لرجل أجر [ ص: 492 ] فأما التي هي له وزر، فرجل ربطها رياء، وفخر ونواء على أهل الإسلام، فهي له وزر.

وأما التي هي له ستر، فرجل ربطها في سبيل الله، ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها، فهي له ستر.

وأما التي هي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء، إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات؛ وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات"
الحديث بطوله. رواه مسلم.

وفيه: بيان أنواع ربط الخيول، وأن منها ما هو إثم لصاحبه، أو ستر له، أو أجر.

وقد فقد ربطها للأجر منذ ذهبت دولة الإسلام، حتى لا يرى له أثر ولا عين.

والغالب على أبناء الزمن ربطها للوزر. وأما الستر، فأهله أقل قليل، واحد في آلاف.

والحاصل: أن الإباحة في المراكب بناؤها على حسن النية، وإخلاص الإسلام، واستعمالها في مواضعها، التي أرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإذا لم يكن هذا، فهو وبال على صاحبه، وهو مسؤول عنه، وهو عليه لا له، والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية