الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 1028 ) مسألة : قال : ( ولا يبتدئ في هذه الأوقات صلاة يتطوع بها ) . لا أعلم خلافا في المذهب أنه لا يجوز أن يبتدئ صلاة تطوع غير ذات سبب . وهو قول الشافعي ، وأصحاب الرأي . وقال ابن المنذر : رخصت طائفة في الصلاة بعد العصر ، روينا ذلك عن علي ، والزبير ، وابنه ، وتميم الداري ، والنعمان بن بشير ، وأبي أيوب الأنصاري ، وعائشة ، وفعله الأسود بن يزيد ، وعمر ، وابن ميمون ، ومسروق ، وشريح ، [ ص: 430 ] وعبد الله بن أبي الهذيل ، وأبو بردة ، وعبد الرحمن بن الأسود ، وابن البيلماني ، والأحنف بن قيس .

                                                                                                                                            وحكي عن أحمد أنه قال : لا نفعله ولا نعيب فاعله . وذلك لقول عائشة رضي الله عنها : { ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر عندي قط } . وقولها : وهم عمر ، إنما { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحرى طلوع الشمس أو غروبها } . رواهما مسلم . وقول علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { لا صلاة بعد العصر إلا والشمس مرتفعة } . ولنا ، الأحاديث المذكورة في أول الباب ، وهي صحيحة صريحة ، وروى أبو بصرة ، قال : { صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر بالمخمص ، فقال : إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها ، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين ، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد } . رواه مسلم . وهذا خاص في محل النزاع .

                                                                                                                                            وأما حديث عائشة ; فقد روى عنها ذكوان مولاها ، أنها حدثته ، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر وينهى عنها } . رواه أبو داود . وروى أبو سلمة ، أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما بعد العصر ، فقالت : كان يصليهما قبل العصر ، ثم إنه شغل عنهما ، أو نسيهما ، فصلاهما بعد العصر ، ثم أثبتهما وكان إذا صلى صلاة أثبتها . وعن أم سلمة قالت : { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما ، ثم رأيته يصليهما ، وقال : يا بنت أبي أمية ، إنه أتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم ، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر ، فهما هاتان } . رواهما مسلم .

                                                                                                                                            وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعله لسبب ، وهو قضاء ما فاته من السنة ، وأنه نهى عن الصلاة بعد العصر ، كما رواه غيرهما ، وحديث عائشة يدل على اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، ونهيه غيره ، وهذا حجة على من خالف ذلك ، فإن النزاع إنما هو في غير النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك من غير معارض له .

                                                                                                                                            ( 1029 ) فصل : فأما التطوع لسبب غير ما ذكره الخرقي ، فالمنصوص عن أحمد ، رحمه الله ، في الوتر أنه يفعله قبل صلاة الفجر . قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل : أيوتر الرجل بعدما يطلع الفجر ؟ قال : نعم . وروي ذلك عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس ، وحذيفة ، وأبي الدرداء ، وعبادة بن الصامت ، وفضالة بن عبيد ، وعائشة ، وعبد الله بن عامر بن ربيعة ، وعمرو بن شرحبيل ، وقال أيوب السختياني وحميد الطويل : إن أكثر وترنا لبعد طلوع الفجر .

                                                                                                                                            وبه قال مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي . وروي عن علي رضي الله عنه أنه خرج بعد طلوع الفجر ، فقال : لنعم ساعة الوتر هذه . وروي عن عاصم ، قال : جاء ناس إلى أبي موسى ، فسألوه عن رجل لم يوتر حتى أذن المؤذن ؟ قال : لا وتر له ، فأتوا عليا فسألوه فقال : أغرق في النزع ، الوتر ما بينه وبين الصلاة . وأنكر ذلك عطاء ، والنخعي ، وسعيد بن جبير ، وهو قول أبي موسى على ما حكينا ، واحتجوا بعموم النهي .

                                                                                                                                            ولنا ، ما روى أبو بصرة الغفاري ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن الله زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح ، الوتر الوتر } . رواه الأثرم ، واحتج به أحمد ، ولأنه قول من سمينا من الصحابة ، وأحاديث النهي الصحيحة ليست صريحة في النهي قبل صلاة الفجر ، على ما قدمناه ، إنما فيه حديث ابن عمر وهو غريب ، وقد روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من نام عن الوتر أو نسيه ، فليصله إذا أصبح أو ذكر } . رواه ابن ماجه . وهذا صريح في محل النزاع .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، فإنه لا ينبغي لأحد أن يتعمد ترك الوتر حتى [ ص: 431 ] يصبح ; لهذا الخبر ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { فإذا خشي أحدكم الصبح فليصل ركعة توتر له ما قد صلى } . متفق عليه . وهكذا قال مالك . وقال : من فاتته صلاة الليل فله أن يصلي بعد الصبح قبل أن يصلي الصبح ، وحكاه ابن أبي موسى ، في " الإرشاد " مذهبا لأحمد ، قياسا على الوتر ، ولأن هذا الوقت لم يثبت النهي فيه صريحا ، فكان حكمه خفيفا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية