الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان الأحكام الخاصة باتخاذ المساكن

وفي باب المساكن؛ فلما روي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النفقة كلها في سبيل الله إلا البناء، فلا خير فيه" رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.

المراد: البناء الزائد على قدر الحاجة. ويوضحه حديث خباب عنه صلى الله عليه وسلم، [ ص: 493 ] قال: "ما أنفق مؤمن من نفقة، إلا أجر فيها، إلا نفقته في هذا التراب" (أي: البناء فوق الاحتياج) رواه الترمذي، وابن ماجه.

ويزيده إيضاحا، ويكشفه بيانا، حديث أنس عند أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما ونحن معه، فرأى قبة مشرفة؛ أي: بناء أو دارا عالية، فقال: "ما هذه؟"، قال أصحابه: هذه لفلان، رجل من الأنصار، فسكت، وحملها في نفسه؛ أي: أضمر تلك الفعلة في نفسه غضبا عليه، أو الضمير للكراهة المفهومة من المقام، أو للقبة، أو للكلمة التي قال أصحابه حتى جاء صاحبها، فسلم عليه في الناس، فأعرض عنه، صنع ذلك مرارا، حتى الرجل الغضب فيه، والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه، وقال: والله إني لأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

في "القاموس": أنكره، واستنكره، وتناكره: جهله، والمنكر: ضد المعروف.

أي: لا أعرف منه صلى الله عليه وسلم العادة المعهودة؛ من حسن التوجه والإقبال، وأرى ما لم أعهده من العنف والكراهية.

قالوا: خرج فرأى قبتك، فرجع الرجل إلى قبته، فهدمها حتى سواها بالأرض، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فلم يرها، قال: "ما فعلت القبة؟"، قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك، فأخبرناه، فهدمها، فقال: "أما إن كل بناء وبال على صاحبه، إلا ما، إلا ما - يعني: إلا ما لابد منه -.دل الحديث على أن البناء فوق الحاجة ثقل، وحمل على صاحبه، والإنفاق فيه لا يؤجر عليه؛ لأنه يؤذن بتعلق القلب بالدنيا، والإخلاد فيها، والدنيا دار فناء لا بقاء لها، فما لها ولإضاعة المال في البناء فيها؟!

ولفظ "القبة" يرشد إلى أن البناء المرتفع، والأساس العالي، منهي عنه.

وإذا لم يجز النفقة في "القباب" التي يبنيها الرجل لراحته ودعته، فما ظنك بنفقة المال في "القباب" التي تبنى على القبور؟! فإنها سرف محض، ووبال صرف، وتبذير خالص، ووزر واضح، وهو أشد وبالا على من بناها أو رضي بها، له بعد الموت [ ص: 494 ] وفيه: إرشاد إلى اختيار المسكن الضروري، ويدل له حديث عثمان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري به عورته، وجلف الخبز والماء" رواه الترمذي.

و "الجلف" - بالكسر -: الخبز وحده، لا إدام معه، وقيل: هو الخبز اليابس الغليظ، ويروى - بفتح اللام -: جمع "جلفة"، وهي الكسرة من الخبز، وعن ابن الأعرابي: "الجلف": الظرف، مثل الخرق، والجوالق.

قال القاضي: ذكر الظرف، وأراد المظروف؛ أي: كسرة خبز، وشربة ماء. انتهى، وأراد بالحق: ما وجب له من الله من غير تبعة في الآخرة، وسؤال عنه، وإذا اكتفى بذلك من الحلال، لم يسأل عنه؛ لأنه من الحقوق التي لابد للنفس منها.

وأما ما سواه من الحظوظ؛ كالأطعمة اللذيذة النفيسة، والدور الرفيعة، والغرف المشرفة ونحوها، فيسأل عنه، ويطالب بشكره.

قلت: ويدخل في هذا الحديث غير القباب؛ من الحدائق والبساتين، التي يبذل أصحاب الثروة أموالهم عليها، ويصرفون فيها ألوفا من النفقة، لحظ النفس منها ساعات من الدهر، وكذلك الأمكنة التي يبنونها للطيور والدواب من الأقفاص وغيرها، ونحوها مما لا حاجة لهم إليه.

فكل ذلك وبال على أهلها، وما أنفقوا عليها هو سرف، والله لا يحب المسرفين، أو تبذير، والمبذرون هم إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورا.

ومن الملوك، والأمراء، من يبني كل عام مكانا يسكن فيه، ومنهم من بنى ديوانا، وصرف عليه لكوكا من الأموال، لا يحصيها إلا الله، وشيده بالجواهر والدرر، وزوقه بماء الذهب، والله أعلم إلى أين يكون وباله، وفي ممالكه من المسلمين آلاف يبيتون طاوين؛ لا يملكون قوت يوم ولا ليلة.

فانظر إلى هذا الحال، وإلى ما يكون لهم المآل، وهذا الوعيد الشديد في المساكن التي يبنونها للسكونة.

[ ص: 495 ] وأما البيوت التي لا يجلسون فيها إلا في بعض الأيام، وفي بعض الأوقات، فقد تقدم حكمها في حديث سعيد بن أبي هريرة مرفوعا، وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيوت الشياطين، ولم يفسرها، والإبهام يفيد شدة الكراهة، وعموم البلوى.

وفسرها راوي الأحاديث بالأقفاص، والراوي أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم.

فإياك أن تغتر بهذه الديار، والبيوت لأهل الرفاهية والرياسة؛ فإنها من أشراط الساعة الكبرى؛ لما في حديث جبريل - عليه السلام - من رواية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء، يتطاولون في البنيان"؛ أي: يتفاضلون في ارتفاعه وكثرته، ويتفاخرون في حسنه.

و "الحفاة" جمع الحافي، وهو من لا نعل له، و"العراة" جمع العاري، وهو من لا ثوب له، و"العالة" جمع عائل، وهو الفقير الذي لا مال بيده، و"الرعاء" جمع راع، و"الشاء" جمع شاة.

والمراد: أن المفاليس والأراذل الذين لا يعبأ بهم، يصيرون أغنياء عند قرب الساعة، فيبنون الأمكنة الرفيعة، والدواوين المشرفة العالية، ويسكنونها، ويتفاخرون فيما بينهم بها على المسلمين الفقراء، الذين ليس لهم إلا الدين.

وقد وجد مصداق ذلك في الأرض من مئين من السنين؛ فإن غالب من تسلط على الأرض من غير قريش على اختلاف قبائلهم، كانوا كذلك، وتلك بقاياهم في بعض الأقاليم من "الهند" وغيره، وكذلك حال النصارى حكام اليوم؛ فإنهم كانوا قبل ذلك أذلة في الدنيا، ثم صاروا أعزة، وصارت الدولة لهم في أكثر الممالك، واضمحلت دولة الإسلام وأهله منها، وذلك من أمارات القيامة.

وبالجملة: الإنفاق في تحسين المسكن وتزويق المكان، ليس من خصال أهل الإيمان، بل هو من شنشنة أهل الكفر والطغيان، وأصحاب الفسق والعصيان.

التالي السابق


الخدمات العلمية